اللحظة التي هرمنا في انتظارها / توجان فيصل

ثلاثاء, 2015-01-06 11:36

وضع دستور جيد لا يكفي بدون ضمانات في ذات نصه تؤدي لحسن تفسيره وتطبيقه، وضوابط التفسير هذه مهمة للغاية, لأن العبث بالدساتير لا يطال نصوصها فقط بل يطال تفسيراتها أولا, خاصة بعد مرور زمن على وضعها.

فإذا كانت الأحكام الواردة في القرآن أصبحت تفسر حسب مصالح المتنفذين من الحكام، وصولا لشيوخ ينصبون أنفسهم على جماعة توظف العنف والترهيب, بدءا بالعنف اللفظي وصولا للتكفير وقطع الرقاب، فالدساتير الوضعية تصبح هدفا أسهل للتحريف بزعم تفسيرها.

في مقالتنا السابقة تناولنا أهم ما نص الدستور التونسي على عدم جواز تعديله من مواده, لا بالإلغاء ولا بالزيادة ولا بالنقصان, وأيضا ما لا يجوز الإنقاص منه (كحقوق المواطنين)، ولكن تجوز الزيادة عليه، وفي مقالتنا هذه نتناول ما يضبط حسن تطبيق الدستور بوضع ضوابط لتفسير نصوصه وبإنشاء محكمة دستورية.

والنقاش والجدال يصاحبان عادة وضع الدساتير ومثلها القوانين، ولهذا تقديم مشاريع القوانين مرفقة بـ"الأسباب الموجبة" مهم لأنه يبين "قصد المشرع"، فحتى الحكم الإلهي المنزل يلزم لفهمه فهما سليما معرفة "ظروف وأسباب التنزيل".

"النقاش والجدال يصاحبان عادة وضع الدساتير ومثلها القوانين، ولهذا تقديم مشاريع القوانين مرفقة بـ"الأسباب الموجبة" مهم لأنه يبين "قصد المشرع"، فحتى الحكم الإلهي المنزل يلزم لفهمه فهما سليما معرفة ظروف وأسباب التنزيل"

ولكون الدساتير تمثل مبادئ وقواعد عامة ترقى لمرتبة الأحكام التي يفترض فيها الثبات تحوط الدستور التونسي بما لا يقل عن إفراد الباب التاسع المسمى "الأحكام الختامية", ليحصن الدستور من عبث التفسيرات بقوله "توطئة هذا الدستور جزء لا يتجزأ منه" (الفصل الـ145)، ويكمل الفصل الـ146 بقوله "تفسر أحكام الدستور ويؤول بعضها البعض كوحدة منسجمة", "فالتوطئة" تعين على فهم "قصد المشرع".

غير أن هذا لا يعني أبدا الخروج عن النص بزعم فهم لاحق أو خاص لقصد المشرع، فالنص التشريعي هو الملزم لأنه حاكم حتى على من أصدروه, ولا تتبدل أحكامه مهما تبدلت قناعات هؤلاء, وإنما تتبدل بتبدل القناعات الجمعية لشعب بأسره، ولهذا ضرورة كون "السلطة التشريعية" مرتبطة بالانتخاب, والانتخاب الدوري.

وهذان الفصلان (المادتان) هما خلاصة حكم "الباب التاسع" كله، فالفصل الذي يليهما ويختتم به الباب ينص فقط على وجوب تفعيل الدستور بنشره، لتبدأ إجراءات العمل به وفق ما ينظمه الباب العاشر المسمى "الأحكام الانتقالية"، وهو الباب الذي لن يلزم تونس بعد أن تتم عبور فترتها الانتقالية تلك, ولكنه سيلزم وبأهمية بالغة العالم العربي الذي دخل مرحلة استحقاقات ربيعه لا محالة, خاصة بعد السقوط المكلف لدول عربية كبرى في اجتياز مرحلة الانتقال تلك.

ما يخص الرئاسة
نبدأ بالأهم الذي يؤشر على درجة احترام الدستور التونسي وتحصينه من الخرق, وهو أن رئيس الجمهورية المنتخب الذي لا يجوز توليه المنصب لأكثر من فترتين -طول كل منهما خمس سنوات- متصلتين أو منفصلتين، ولا يجوز تعديل الدستور بما يزيد تلك المدة (الفصل الـ75) يمكن عزله من منصبه (الفصل الـ88) في حالة ثبوت قيامه بـ"خرق جسيم" للدستور.

والعزل يتم بمبادرة من أغلبية مجلس النواب وبلائحة اتهامية معللة يوافق عليها ثلثا أعضائه تحال للمحكمة الدستورية التي تبت فيها بأغلبية ثلثي أعضائها أيضا, وفي حالة "الإدانة" لا يمكن ان تحكم إلا بالعزل، ولا يعفي عزل الرئيس من التبعات (الملاحقات القضائية) الجزائية عند الاقتضاء، ويترتب على الحكم عليه بالعزل فقدانه حق الترشح لأي انتخابات أخرى.

أقل ما يقال هنا أن إخوتنا التونسيين قد فاقوا بهذا دستور الولايات المتحدة ذاته الذي أعطى الكونغرس حق إعفاء الرئيس من الملاحقة القضائية بعد إدانته فلم يلاحق نيكسون على "ووتر غيت" بعد عزله.

ونترك للأساتذة المختصين إفادتنا بفرص الملاحقة القضائية لبوش الابن على جرائمه المتعددة, كونه لم يحاكم ابتداء أمام الكونغرس لخرقه الدستور كما جرى لنيكسون, بل غادر منصبه بانتهاء ولايته الثانية.

ويتوجب استكمالا لعلوية الدستور والقانون حتى على الرئيس المنتخب أن نعود للفصل الدستوري السابق على هذا مباشرة, لنبين أن ليس فقط الخرق الجسيم للدستور هو ما يعاقب عليه رئيس الجمهورية, بل إن خرق الرئيس أي قانون يعرضه للمحاسبة، فالحصانة التي تحول دون ملاحقة رئيس الجمهورية قضائيا تنتهي بانتهاء ولايته، والفصل الـ87 من الدستور التونسي يقول "يتمتع رئيس الجمهورية بالحصانة طوال توليه الرئاسة, وتعلق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط, ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه، ولا يسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه".

والنص في هذا الفصل على أن "تعلق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط" مهم للغاية، فالحديث هنا عن مدد التقادم التي تسقط بعدها العقوبة الجزائية وتبقى للمتضررين فقط المطالبة بالحقوق والتعويضات المالية، ولعدم نص دساتير عربية أخرى -كالدستور المصري السابق والجديد- على هذا التعليق لآجال ومدد سقوط التهمة أمكن زعم سقوط بالتقادم لجنايات ارتكبها حسني مبارك في حكم البراءة المثير للجدل الذي حصل عليه.

"الجهات الثلاث التي أعطيت حق تعيين قضاة المحكمة الدستورية هي جهات منتخبة، فرئيس الجمهورية منتخب مباشرة من الشعب, ورئيس مجلس النواب منتخب من الشعب ثم من نوابه، فيما المجلس الأعلى للقضاء يتكون ثلثاه من قضاة أغلبهم منتخبون والبقية معينون "

وحتما ما كان يمكن يجرؤ أي مصري على مقاضاته طوال الثلاثين سنة التي قضاها في الحكم، مما يطرح سؤالا عن جواز زعم انطباق التقادم هنا والتبعات الخطيرة لذلك الزعم, ومنها أن يصبح الأنموذج الليبي في عزل الحكام أكثر جذبا للشعوب.

ولأن التقادم لم يكن يعلق مدد السقوط في ما يتعلق بجرائم الحكام فإن وقفة أخرى تلزم هنا عند "التعليق" المطول وبما يفوق آجال سقوط الجنايات, والذي كان يجري للدستور وأحكامه وللحياة النيابية بزعم وجود "حالة طوارئ" في تلك الدول.

والدستور التونسي عالج هذا في الفصل الثمانين بأن أعطى "لرئيس الجمهورية -في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة- أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية"، ولكن هذا لا يتم بقرار منفرد منه، بل يتوجب استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب, وكلاهما منتخب من الشعب بداية, ثم من نواب الشعب بانتخابهم رئيسهم وبإعطائهم الثقة للحكومة.

ويضيف الفصل الثمانون وجوب بقاء مجلس النواب في حالة انعقاد دائم طوال هذه الفترة, أي أن الرقابة الشعبية تظل قائمة وبصورة متصلة, ولا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس النواب أثناء قيام الحالة الاستثنائية, ولكن لا يجوز أيضا تقديم النواب أثناءها "لائحة لوم" (أي استجواب وطرح ثقة) للحكومة، أي أن الخلافات توضع جانبا لحين زوال "الخطر الداهم".

وفترة الطوارئ ليست مفتوحة بل ينبغي إنهاؤها "في أقرب الآجال"، ولكن "بعد مضي ثلاثين يوما, وفي كل وقت بعد ذلك يعهد إلى المحكمة الدستورية -بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه- البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه، وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه 15 يوما، وينهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها".

وعبارة "في كل وقت بعد ذلك" تعني حق النواب ممثلين برئيس مجلسهم أو بثلاثين نائبا (والثاني يحفظ حق المعارضة وأي أقلية نيابية ترفض استمرار حالة الطوارئ) الطلب وإعادة الطلب من المحكمة الدستورية البت في جواز استمرار تلك الحالة.

المحكمة الدستورية
ونأتي للمحكمة الدستورية: تشكيلتها وعملها، فالدستور ليس نصا قانونيا فحسب بل هو يقع بمنزلة أعلى من القانون لكونه نصا سياسيا يحدد المبادئ التي تقوم عليها "الدولة" ومنظومة "الحقوق" والواجبات فيها، لهذا جرى النص في الدستور التونسي على أن يكون ثلاثة أرباع أعضاء المحكمة (الـ12) من المختصين في القانون الذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة, يعين كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء أربعة منهم على أن يكون ثلاثة من الأربعة من المختصين في القانون, ولفترة واحدة مدتها تسع سنوات، ويجدد ثلث أعضاء المحكمة كل ثلاث سنوات.

ويلاحظ هنا أن الجهات الثلاث التي أعطيت حق تعيين قضاة المحكمة الدستورية هي جهات منتخبة، فرئيس الجمهورية منتخب مباشرة من الشعب, ورئيس مجلس النواب منتخب من الشعب ثم من نوابه, فيما المجلس الأعلى للقضاء يتكون ثلثاه من قضاة أغلبهم منتخبون والبقية معينون بالصفة (أي الشاغل المنصب الأعلى للجهة القضائية الممثلة فيه)، والثلث المتبقي من المستقلين ذوي الاختصاص, على أن تكون أغلبية "هياكل المجلس القضائي الأربعة" من المنتخبين.

وغلبة المنتخبين على هياكل المجلس وليس فقط على كامل المجلس تعني غلبة الانتخاب على التعيين رغم لزوم تعيين القضاة شاغلي الوظائف القضائية العليا فيه، وينتخب أعضاء المحكمة الدستورية رئيسهم ونائب الرئيس من بينهم على أن يكونا من المختصين بالقانون.

وفقط للمقارنة, فإن المحكمة الدستورية الأردنية تتشكل من تسعة أعضاء كحد أدنى, وجميع الأعضاء وأيضا رئيس المحكمة يعينهم الملك، ولم يرد في النص الدستوري الذي تشكلت به المحكمة -ضمن تعديلات دستورية وضعتها لجنة ملكية أيضا- وجوب تنسيب الحكومة (أو أي جهة أخرى) لأسمائهم رغم أن نص الدستور الباقي لحينه دون تعديل هو أن الملك يمارس صلاحياته عبر وزرائه, وأن أوامر الملك لا تعفي الوزراء ورئيسهم من المحاسبة, ولهذا اشتراط التنسيب لشاغلي المناصب العليا الأخرى واشتراط توقيع رئيس الوزراء والوزير المختص على الإرادة الملكية.

"الإرهاب المتفاقم نبه العالم لوجوب التعامل مع تظلمات الشعوب العربية، والإنجاز التونسي الحضاري السلمي أنهى هاجس سقوط كل الثورات في أتون العنف، فهذا الإنجاز هو ما "هرمنا في انتظاره" ولن يهرم أبناؤنا مثلنا"

وحديثا أدخل تعديل آخر للدستور ألغى تنسيب الحكومة لشاغلي منصب مدير المخابرات العامة ورئيس هيئة أركان الجيش، وعدم تحديد عدد أعضاء المحكمة في النص الدستوري يتيح تغيير تركيبتها في أي لحظة بتعيين أعضاء آخرين جدد فيها.

ونعود للمحكمة الدستورية التونسية وصلاحياتها الحصرية في الحكم بدستورية كل من: مشاريع القوانين, والقوانين السارية (في حال ورود طعن من متضرر لدى أي محكمة), والمعاهدات, والنظام الداخلي لمجلس النواب, وجواز أو عدم جواز تعديل مواد دستورية (يحق لرئيس الجمهورية ولثلث أعضاء مجلس نواب الشعب التقدم بمبادرة لتعديل الدستور)، وغيرها من المهام التي أحليت أو ستحال لها ضمن أحكام هذا الدستور وتعديلاته, ومنها البت في وجوب إنهاء أو استمرار حالة الطوارئ التي عرضنا لها سابقا.

ويستوقفنا كون آجال بت المحكمة الدستورية في ما يحال إليها قصيرة, وتصل في أدناها لثلاثة أيام -في حالة طعن متضرر في دستورية قانون سار المفعول أثناء قضية رفعها أو محاكمة يخضع لها- يمكن أن تمدد مرة واحدة لفترة مساوية، وبقرار مبرر تصدره المحكمة، وتصل في أعلاها -كالنظر في انتهاء مسببات إعلان حالة الطوارئ- إلى 15 يوما.

وأيضا للمقارنة نشير إلى كون المدة المعطاة للنظر في دستورية قانون يطبق على مواطن واعترض عليه في قضية جارية في الأردن, إذ أعطيت المحكمة الدستورية الأردنية 120 يوما (أي أربعة أشهر كاملة)، وهذا غير بت المحكمة الناظرة للقضية في إحالة أو عدم إحالة الطعن للمحكمة الدستورية والذي يبلغ الشهر, ومدد أخرى يصعب هنا حصرها, بل ويصعب حصر أضرار أخرى لهذه المدد، منها أن يكون الطاعن بعدم دستورية القانون الذي يحاكم به يحاكم وهو موقوف.

ولكون المحاكمة ستتوقف مع إحالة الطعن بعدم الدستورية إلى المحكمة الدستورية فإن قبول طعن المتضرر هو حكم عليه بالسجن لما يقل عن خمسة أشهر، ولا ضمانة لئلا تتغير تركيبة المحكمة الدستورية خلالها بما يجعل تعويله على شخوص قضاتها غير ما كان حين تقدم بالطعن.

الإرهاب المتفاقم نبه العالم لوجوب التعامل مع تظلمات الشعوب العربية، والإنجاز التونسي الحضاري السلمي أنهى هاجس سقوط كل الثورات في أتون العنف، فهذا الإنجاز هو ما "هرمنا في انتظاره" ولن يهرم أبناؤنا مثلنا، ومن يتساقطون في شبابهم يتساقط كثر آخرون معهم في عالم بات قرية صغيرة.

اقرأ أيضا