رواية القبر المجهول / أحمدو ولد عبد القادر (الحلقة2)

جمعة, 2015-01-30 23:23

في الزمن الموريتاني القديم جدا بالنظر إلى مدى اختلاف ظروف حياة أهله عن عادات وظروف حياتنا نحن أبناء اليوم، والقريب جدا بالنظر إلى درجة ابتعاده في الماضي، وهو العقدان الرابع والخامس من القرن التاسع عشر الميلادي؛ شاءت الأقدار أن تتواجد ثلاثة أحياء بدوية متقاربة، يجمعها حلف تاريخي قائم على مصالح غير متوازنة.

كان الزمن صيفا، ولا يفصل أحد الأحياء عن الآخرين أكثر من مسافة يقطعها راكب الجمل خلال أربع ساعات.

وأول تلك الأحياء من قبيلة أولاد اسويلم : حسانيون محاربون أشدّاء، كسبهم من المواشي قليل. إلا أنهم مسلحون بالبنادق ولديهم بعض الخيول المسومة العربية العتيقة. أما الحي الثاني فقبيلة أولاد عبد الرحمن: عشيرة زوايا من قبائل العلم المتخصصة في أصلا تدريسه والعمل بمقتضاه، مجردة من السلاح، ولكن لديها مواش كثيرة. والثالثة حي قبيلة أولاد احميدان: زناقة عزل تقريبا من السلاح والعلم. ولكن مواشيهم أكثر من حيوانات الحيين الآخرين مجتمعين. على أن في أموالهم حقا لأولاد اسويلم أهل السلاح والسلطة، وآخر لأولاد عبد الرحمن بحكم النفوذ الثقافي الروحي. وكانت رياح السموم الصيفية التي توافق طلوع نجم الدبران والمعروفة ب"ردم النجوم" تهب من الشمال بحرارتها الحارقة المألوفة. وقد توقفت فجأة منذ يومين عن أرض (الرقيطة) حيث تتجاور الأحياء الثلاثة بين منطقتي (تقانت) و(آدرار).

وتجمع لفيف من رجال أولاد احميدان، في ليلة مقمرة أمام إحدى خيامهم الصغيرة، تحيطها مئات من الإبل والأغنام العجاف، مستلقين على ظهورهم أو مضجعين، متمرفقين، متعبين كحيواناتهم التي يكلف رعيها وحفظها في فصل الصيف مجهودا فوق العادة.

وقال أحدهم وهم ساهرون:

يبدو أن أمطار الخريف ستنزل هذا العام في وقت مبكر !
كيف عرفت ذلك؟! أأصبحت عرّافا أنت الآخر؟! أم وليا؟! لم نسمع قط بزناقي "ولي" !
لست عرّافا ولا أدعي الولاية و...
ولكن ما هذه البشارة التي أردت أن تحملها إلينا يا ديلول؟! سمّاك الناس على ديلول الحكيم! ولا أخالك مثله...
نعم ... ولكنها تجارب أجدادنا، أخذناها منهم وأرتنا تجارب الحياة صدقهم.
لا مانع ولكن ... المهم أن تقول لنا بما تستدل على سرعة نزول الأمطار هذا العام كما تدعي؟ إن وقت الخريف لم يحن بعد، قبّح الله وجهك!
أخسأ ! قبّح الله وجهك أنت وقفاك. ألا تلاحظ أن رياح "القبلة" (الريح الجنوبية الغربية القادمة من جهة المحيط الأطلسي) هبت هذه السنة بنداها البليل في وقت مبكر؟ وأرواح السموم الشمالية قد توقفت قبل توقفها العام الماضي؟!
صحيح ولكني أظن فقط أنك تفكر كثيرا في نوقك الكريمة العجاف، فتحلم وأنت فاتح عينيك !

هكذا تشاتم راعيان من رجال الحي، بوقاحة مألوفة بينهما، وهما يتجادلان وهذا لا يناقض روح المودة العميقة بينهما. بل إن العبارات البذيئة والكلمات النابئة تحتد بين المتكلمين في هذا الحي كلما كانت روح الصداقة بينهم أعمق، وشكليات التحفظ أبعد. وتتخلل حوارهما ضحكات مجعجعة، تطلقها محدودية همومهما النفسية ومرحهما، وتقيدها متاعبهما البدنية في أعمالهما اليومية.

وقاطع الرجلين المتحاورين رجل آخر يضجع أما خيمة مجاورة:

آهٍ ! بشرى لك يا ديلول! إني أرى "بريقا أعمش" يخفق في الشرق البعيد!

ونظر الجميع جهة الشرق فلم يروا شيئا مما ذكر المبشر وقالوا في وقت واحد:

لا شيء يبدو هناك يا كذاب.

وأردف أحدهم:

كان الملعون نائما، فاختلطت وساوسه في النوم وما سمع من كلامنا، فظن أنه يرى بروقا!
والحقيقة أن ليس هناك غير نجوم النعائم تشع في صحو تام.

وعاد الكلام إلى الرجل الأول الذي كان يمازح ديلول ويشاتمه، ونادى بصوت مرتفع:

يا فاطمة! يا عرّافة! يا فاطمة!
ياه.. ! يوه.. ! من الذي يناديني؟
نريد أن نعرف رأيك في دعوى ديلول أن الأمطار ستنزل مبكرة؟
روعت قلبي: ما هكذا يجب أن ينبه النائم!
اسمحي لي يا مرابطتي. ما ظننتك نائمة، لأننا ما نزال في أول الليل!

وجلست المرأة الجسيمة وحيدة في خيمتها القريبة من تجمع الساهرين وفكرت مليا ـ محملقة بعينيها البارزتين إلى السماء من تحت طنوب خيمتها ـ حريصة بقدر ما يساعدها الحظ، على أن تكون إجابتها مقنعة وصحيحة، وكلها أمل أن يزداد حسن ظن القوم بها. مع أنهم في المدة الأخيرة، لا يخلو بعض أفرادهم من السخرية منها والتندر بأقوالها. وربما نشأ ذلك بتحريض من ضيوف أولاد عبد الرحمن الناظرين إلى تلك "المتنبئة" الغريبة التي لا يعرف أحد شيئا عن أصلها وفرعها، بشيء من عدم الارتياح، بل السخط. خاصة أنها تطمح على ما يبدو من سلوكها في مشاركتهم في بسط النفوذ الروحي على أفراد أولاد احميدان السريعي التصديق لما يصدر من الزوايا بدون تمييز....

 

يتواصل..

اقرأ أيضا