معارضتنا السياسية ومفارقة "من أين لك هذا؟"

خميس, 2015-09-03 01:19

طبيعي جدا، بل أكثر من بديهي، أن تبدي قوى المعارضة (تصريحا وتلميحا وما بينهما) كل النقد والاعتراض على سياسة النظام الحاكم الذي تشكل معارضته سر وجودها وجوهر دورها. ومن غير المألوف ولا المستساغ ـ إطلاقا ـ أن تتبنى تلك القوى السياسية مواقف تجامل أو تحابي من في السلطة؛ وإن كان هامش المناورة المتاح لها، دستوريا وسياسيا وأخلاقيا، محصورا في دائرة الطرح السياسي وأسلوب الحكامة والتعاطي الديمقراطي مع الشأن العام؛ بعيدا عن المقدسات الوطنية وثوابت الأمة وحرمة السلم الأهلي والانسجام الاجتماعي وأمن وسلامة الحوزة الترابية للبلد وجميع مواطنيه.. فتلك أمور تفرض الإجماع حولها ولا تقبل (ولا تحتمل) المهاترات السياسية والتجاذبات الظرفية بين قطبي المشهد السياسي الوطني..

 

دائرة التعاطي السياسي بين الأغلبية والمعارضة تفرض على الطرفين ـ بذات الدرجة ـ عدم تجاوز إطارها العام والنأي بتجاذباتهما عن الجوانب الشخصية والخيارات الحرة للأفراد؛ إذ هي خارج إطار الشأن العام أصلا؛ أي خارج حلبة صراعهما المحتوم..

 

بيد أن بعض قوى المعارضة السياسية في بلدنا (لا أقول كلها ولا ينبغي لي ذلك) تبدو غير منسجمة مع تلك المسلمات التي لا خلاف عليها في أي نظام ديمقراطي تعددي، وغير قادرة على التماسك والثبات داخل الحلبة، فتتجاوز ـ أحيانا ـ قواعد اللعبة التي يفترض أن تكون أكثر حرصا على التقيد بها من خصمها في تلك المنافسة النظيفة على شراسة بعض جولاتها. مما جعل خطاب تلك القوى السياسية يظهر ضعيف البنية، مختل التركيز، مشحونا بالمفارقة..

 

ولعل آخر فصول هذا النهج غير السوي في طرحه وبنيته؛ بيان المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة؛ بتاريخ 31 أغسطس المنصرم، والذي حمل سلسلة من التساؤلات ذات الصبغة الاستنكارية والبعد المادي البحت؛ تصدرها سؤال: "من أين لكم يا آل عبد العزيز كل هذه الثروة حتى يكون أصغر أطفالكم يلعب بالمليارات ويتصدق على الشعب الموريتاني بالفتات؟"؛ في إشارة إلى هيئة "الرحمة" الخيرية التي يديرها أحمدو ولد عبد العزيز؛ نجل رئيس الجمهورية.

 

كانت أول فكرة راودت ذهني عند قراءة هذه الفقرة من البيان هي أن المنتدى ربما بات مخترقا من أفراد أو جهات تسعى لهدم مصداقيته من الداخل، وإظهاره للرأي العام بهذا المستوى من المفارقة في الطرح والخطاب؛ خاصة في هذه الظرفية المتسمة بجدل غير مسبوق داخل مكوناته حول مسألة المشاركة في الحوار المرتقب مع السلطة من عدمها.. إذ لا أستسيغ أن تصدر مثل تلك المفارقة وهذا التذبذب من كتلة سياسية بحجم المنتدى، تضم نخبة من سياسيي هذا البلد ومفكريه عن وعي ووفق رؤية إستراتيجية ثاقبة.

 

من غير المستساغ، من وجهة نظري المتواضعة جدا، أن يعترض هؤلاء الساسة المخضرمون المحنكون على عمل خيري ـ أيا كان مصدره ـ يوفر أدوية للمرضى من شعبهم من المعدمين والمحتاجين ويمنح مساعدات عينية لفقراء بلدهم..

 

لست أستوعب تركيز هؤلاء العمالقة من السياسيين الوطنيين على رفض واستهجان ظهور هيئة خيرية تعنى بالفقراء والأيتام والأرامل والمعوزين لمجرد أن من أسسها ويديرها أحد أبناء رئيس الدولة.. بينما يغضون الطرف عن هيئات "خيرية" أخرى تنشط منذ عقود أو سنوات، خارجية التمويل والأهداف ومحدودة المستفيدين؛ لا تخفي ـ قولا وعملا ـ سعيها للنيل من مقدسات هذا الشعب، الدينية، والثقافية، والاجتاعية.. وحتى الأمنية..! هيئات ومنظمات يعرف قادة المنتدى أكثر من غيرهم من استجلبها وعلى أي أساس ولأية أهداف.

 

إن إنشاء هيئة خيرية يقودها فرد من عائلة من في هرم السلطة ليس بدعا في موريتانيا؛ بل تقليد عريق ظهر في أرقى ديمقراطيات العالم.. ومن أمثلة ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

ـ هيئة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق، جيمي كارتر؛

ـ هيئة دانيال ميتيران، حرم الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران؛

ـ هيئة أمير ويلز، تشارلز؛ ولي عهد بريطانيا؛

ـ هيئة شارلين، أميرة موناكو وهيئة أختها الأميرة غراس؛

ـ هيئة نيلسون مانديلا الخيرية التي أسسها رمز النضال ضد الميز العنصري؛ غداة خروجه من السجن سنة 1992.. إضافة لهيئة الشيخة موزة بنت ناصر المسند؛ حرم أمير دولة قطر السابق..

 

وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل وارد ومشروع: أليست فرنسا وأمريكا وبريطانيا دولا عريقة في ممارسة الديمقراطية والحكامة الراشدة؟ أليس في كل منها معارضة يقظة حريصة على الشفافية حرصها على الوصول إلى السلطة؟ ثم أليس الزعيم والمناضل الإفريقي الرمز نيلسون مانديلا أكثر من حكموا بلادهم نزاهة وديمقراطية وشفافية؟ أليست قطر "نموذجا" في حسن الحكامة ونظافة أيدي الحكام؟.. ما لكم كيف تحكمون...! غير أن ما يثير الريبة حقا حول الدوافع الحقيقية لهجوم أكبر كتلة لقوى المعارضة الوطنية في موريتانيا، هو صمتها الأقرب للتواطؤ، إزاء نشاط منظمات بات الجميع في هذه الربوع؛ من فصالة شرقا إلى رأس تيميريس غربا؛ ومن عين بنتيلي شمالا إلى روصو جنوبا؛ مجمعين على خطر وخبث عملها "الخيري" على البلد ومقدساته الدينية، ووحدته الوطنية وسلمه الاجتماعي.. وقد انكشف الطابع التنصيري والإلحادي لتلك الهيئات والمنظمات، التي من أبرزها:

ـ منظمة أوكسفام،

ـ منظمة كاريتاس؛

ـ النادي اللوثري؛

ـ وولد فيجن..إلخ.

 

ولم يسمع لقوى المعارضة الوطنية "الغيورة" على مصالح الشعب والوطن أي شجب أو تنديد بتلك الهيئات الأجنبية ونشاطها المشبوه في أبسط أوصافه.. مع أن فضائح اكتشاف الكنائس السرية في نواكشوط، ومئات الكتب التنصيرية في الداخل ملأت الآفاق وزلزلت الساحة السياسية والإعلامية أكثر من مرة.

 

لقد وقع متدى المعارضة الموريتانية؛ أو ربما تم الإيقاع به؛ في فخ المفارقة والتناقض الخطابي، من خلال تركيز بيان صادر عن لجنته الإعلامية يخلط، بشكل غير لائق بحجمه السياسي ومستوى قادته؛ بين يدي دعوة جدية (في ظاهرها على الأقل)، لحوار وطني مفتوح وشامل.. فبقدرما ركز البيان على محاولة ربط موارد هيئة نجل الرئيس الخيرية بتسيير والده للشأن العام في البلد؛ اكتفى بمجرد إشارات عابرة إلى ملامح تدهور الأوضاع المعيشية لغالبية فئات الشعب؛ وغلاء أسعار المحروقات، وانعدام شبكة للصرف الصحي في العاصمة...!

 

كان حريا بالمنتدى تناول الموضوع من زاوية مقلوبة إن كان مصرا على محاولة الربط بين الأمرين.. بل لعل صدور بيان أكثر تماسكا وإقناعا حول مختلف جوانب ما يعتبره ترديا "مذهلا" لأوضاع البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع تحميل السلطة والرئيس كامل المسؤولية عن ذلك..

 

أما وقد جاء بيانه بهذا المستوى من تذبذب الطرح وهلامية البنية، فإن الأمر يثير من الدهشة أكثر مما يحمله من نقد سياسي عميق وقابل للتحليل..!

 

ولئن كانت سياسات النظام وطبيعة قراراته ومواقفه موضع نقاش وانتقاد غاية في الوجاهة، فإن الوقوف في وجه عمل خيري لم يتأخر وقعه الإيجابي ميدانيا من خلال مساعدات عينية وأخرى مادية لصالح فقراء البلد ومرضاه الأكثر احتياجا، لمجرد أنه نابع من شخص من عائلة رئيس الجمهورية، أمر يصعب استيعابه أو حتى تصنيفه ضمن دائرة الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، والذي يبقى جوهر دورهما وسر وجودهما.

 

السالك ولد عبد الله ـ كاتب صحفي

اقرأ أيضا