يومان في قرية الشعر/ الشيخ ولد بلعمش

ثلاثاء, 2014-09-02 10:59

على مدى السنوات الأخيرة كنت أتلقى دعوة كل عام إلى الأسبوع الثقافي والرياضي السنوي الذي تقيمه رابطة الهمم الراشدة في قرية بلنوار التابعة لبلدية النباغية في مقاطعة أبي تلميت لكن مشاغلي كانت تمنعني كل مرة لتفوتني الفرصة مرغما .. أما هذه السنة فقد أكرمني صديقي المهندس المختار بأن دعاني وهيأ لذلك كل أسباب الحضور مغتنما مناسبة التوقيت ولعله أضمر في نفسه أن يخرج صاحبه من سقر العاصمة إلى قرية حالمة تتنفس شعرا وتلبس بردة الخريف المبارك.

لبيت الدعوة فما كنت لأفوت على نفسي اكتشاف ربع واكب نضال الكادحين وتطاول فيه عشب الوعي ليصبح أشجارا ظليلة... قلت لنفسي زرها لعل شيطان الشعر يعزف إحدى سيمفيونياته فلربما تبلد طبع شيطانك أو لعله بدأ يتمرد في عصر المتمردين. ثم إن ضاربة الرمل قد يكون لها جديد في قراءة أحلافنا.

وهكذا بدأت الرحلة و بدأتُ حذرا فقد قيل لي إن صواريخ الكلمات هناك فتاكة وأنا رجل تلقائي فكيف أنجو يا رب السماوات ...

كان رفاقي في الرحلة طيبين معي و ودودين. وكانت أحاديثنا قراءات شعرية غاية في العذوبة. ولقد سقانا العمدة عبد الباقي كاسات شعر لا أذكر أنني سكرت بمثلها إلا في دمشق وقاصرينا. أيام كان أبو سلمى وليل الفيحاء صديقيَّ المفضلين ..

كان باركلل حريصا على التميز كعادته فمن اختياره في الموسيقى المالئة ليل الطريق بالآهات إلى انتقائه الديماني المهذب والأنيق في لغن والشعر. أما بابه فكان ينتقي بعناية اختياره و إنشاده فلا تملك إلا أن تطرب له و تحترمه .. وهكذا كان جميع الرفاق.

الساعة الآن تشير إلى التاسعة ونحن نبدأ المرحلة الثانية من الرحلة .. طريق الأمل يواصل امتداده و نحن نتشبث بالأمل في طريق آخر غير معبد .. يا إلهي ما أجمل ليل البادية ..

أيقظت جنبات الدرب الجديد فيَّ بدويا أصيلا يركب راحلته و يسأل خيام الراحلين عن القاموس ..

أحسست بي أعود إلى ذاتي و عالمي البريئ .. على هذا الثرى كان الشعراء يجوبون بلاد الله بقوافيهم .. وكانت المحاظر تمارس رحلتها الأبدية .. شرودي و تأملي في الماضي و حيرتي في المستقبل صحب آخر في الطريق لم يحس به غيري .. وصلنا و طاب المقام .. ترحيب و فرح و إكرام ..

ها أنت الآن في قرية ولد عبد القادر .. و أسلافه من عشاق االحرف و نجوى النجوم ..

إيليا أبو ماضي و جبران و عبد الرزاق و نزار و درويش و السياب و الشابي و نزار كلهم كانوا حاضرين معنا في السمر .. محونا فواصل الزمن والجغرافيا والحياة والموت ودعوناهم إلى أمسية من أخصب ما يكون ...

نضونا ثوب المجاملة في القصيد فلكلٍّ قول ما يشاء من رأي في شعر صاحبه .. وتلك طريقتي المفضلة في الحديث .. إن الصراحة أحسن سقيا لأشجار الكلمات أما الألقاب و المجاملات فهي خديعة للشاعر و الفنان ..

أنام و لم يبق من الليل إلا قليل ليداعبني النسيم العليل .. يا رب لطفك بسكان العاصمة فكم يتقلب حزبي من الفقراء في جهنم المعاناة ..

أسفر الصبح .. كانت بقربي شجرات اختارت العصافير أن تمارس الرقص على أفنانها و جاء القمري ليشجيني بالهديل .. أ عرفتني هذه العصافير و أية وشائج شدت إلي هذا الحمام ..

الضحى و القرية و الأحلام ملء عيونك أيها الزائر .. لكن من هرب هذا النخل إلى هنا على رأي مظفر النواب .. ولماذا ضحك باركلل من إعادتي قول ذلك القرشي لما رأى نخلة أحس بها .. فقلت شبيهي في التغرب و النوى ..

مجلس الضحى أردته بطريقتي لا طريقتهم .. انا لا أحب الفخامة و الأبهة بل أريد اكتشاف كل جديد .. حرصت على الحديث مع الجميع و الوقوف على ما لديه .. كان منهم أطفال صغار جدا أنست بهم و سألتهم ماذا تحفظون من الشعر .. لأجد في محفوظاتهم الرائعة نوعا و غزارة عزاء عن اهتمام بعض رجال المدينة بكل شيء إلا القصيد..

كانت قيلولتنا في ظل ظليل يزينه كرم نبيل و لقد تداعى إلي شباب القرية و أشبالها ليلتقطوا معي الصور و ليسلموا بحرارة و محبة ..سبحان الله .. كم يقيمون لي وزنا هم أجدر به .. ولقد خطرت بي فكرة ان يقوم كل شعراء موريتانيا بهجرة جماعية إلى قرية الشعر هذه ليجدوا من يستمع إليهم باهتمام في زمن تعاني فيه الكلمات غربتها و يضيق الصادحون بجمود المتلقين .. حدثني أحد الرفاق الضيوف أنه مر هناك بطفلين صغيرين جالسين على الأرض يخطان خطوطا ليكتشف بعد سماع الحديث أن الامر يتعلق بجدال حول تافلويت أهي موزونة أم أن بها خللا ..

فتساءلت أين هذان الطفلان من أطفال بعض أحياء المدينة الراقية ...

أما سهرتنا فحدث و لا حرج .. كانت أهم ميزة بالنسبة لي فيها أن كل من أراد الإنشاد أنشد و أنه لا وصاية و لا حجب لأي قصيد .. إننا الان في سهرة مع قوم وحدهم الشعر و توحدوا من أجله ..

هنيئا لهم بهذه الروح و هذه الذائقة ..

سألت الباحث و الناقد محمد الأمين احظانا و هو أحد أفذاذ القرية بكم تقدر عدد الشعراء الشباب هنا ليكون الجواب أن حوالي خمسين فتى حدثا يكتبون شعرا يتدرج من حق السماع إلى مرحلة جري لا يجرى معه ..

إنه عدد كبير مقارنة مع عدد سكان القرية ثم إنه عدد الشعراء الناشئين فقط ..

قرية الشعر هذه حصد أبناؤها جائزة شنقيط ثلاث مرات .. و لا أمية فيها تقريبا .. لكن شبكة موريتل الوحيدة بها لا تلتقط إلا بشق الأنفس .. و لا كهرباء بها إلا ما جاء به الأهل من مولدات كهرباء تناسب طاقة الكف المحدودة ..

لقرية الشعر مستوصف وحيد سافر ممرضه و لا أدري السبب ليبقى الخليل و هو مفتش يعمل في مدينتي شنقيط مهتما بصحة المرضى في القرية أيام عطلته بمسقط رأسه ..

يحمل عدد لا بأس به من أبناء القرية شهادات جامعية في الطب و الهندسة و كافة التخصصات و يعملون غالبا كفنيين و تكنوقراط .. دون أن يحظى أبناء القرية بتعيينات ذات بال في الدولة إلا قليلا على مدى العهود السابقة و حتى الآن ...

أكد لي أحدهم أن الملف الذي تقدمت به موريتانيا للانضمام إلى الجامعة العربية كتب عليه بيتان من قصيدة محمد فال ولد عينينا الشهيرة بعد أن حور الشطر الأول قليلا ليكتبا كما يلي

إنا بنو وطن دلت فصاحتنا *** أنا إلى العرب العرباء ننتسب

إن لم تقم بينات أننا عرب *** ففي اللسان بيان أننا عرب

ليس ابن عينينا من قرية بلنوار لكنه منتم للحاضنة الشعبية التي جعلت من تظاهرتنا واجهة لها و دليلا على أن سحر الكلمة أقوى من عوادي الزمن ..

فتحت المضارب ذراعيها للجميع لكن قيمتك فيها بالقصائد لا النقود فالحمد لله رب العالمين ...

انتهت رحلتي لأغادر و بي توق إلى اكتشاف منطقة الكبلة التي لم أر من ألوانها العديدة إلا طيفا واحدا كان بهيجا و ممتعا بكل تأكيد ....

اقرأ أيضا