الصيادون في انواذيبو قصة صمود في وجه الموج يحكيها رجال البحر

اثنين, 2014-12-01 11:28

 هنا على السواحل الشمالية لمدينة نواذيبو شمال موريتانيا، يقف الصيادون على أهبة الصمود لمواجهة الموج العاتي الذي يأتي من البحر و الجور و الظلم "العاتي" الذي يلوح من البر، هؤلاء الواقفون بصمت الدنيا المهيب، كان لزاما أن يجدوا من يسائلهم عن قصة البحر و عن ظلامه وموجه و رياحه، ومده الذي يأتي بالأرزاق و الجزر الذي يذهب بالأحلام.

عوامل متعددة دفعتنا إلى المجازفة بدخول مغامرة الرحلة نحو أعماق الأطلسي، لنشارك الصيادين رحلة مغادرة الحياة البرية، و نقاسمهم فقدان الأهل و الأحبة، و الحنين إلى الديار، ليستحيلوا لحظة مغادرتهم البرية إلى أشخاص برمائيين، وكأن صيادو الزوارق التقليدية البدائيةو الذين لم يستفيدوا من التقنيات الجديدة، كتب عليهم أن يعيشوا كل يوم لحظات وداع مؤسفة على الحياة العادية التي عرفوها و ألفوها بين الأهل و على البسيطة آفلين إلى عالم مجهول، و على متن مركب يتمايل بشكل دائم و يترنح متى اشتهت ذلك الرياح.

وقفنا على متن قارب القبطان أحمد ولد امحيميد قبل انطلاقته بدقائق، كانت ملامح الرجل توحي بنيته الاستئساد، يشمر عن سواعديه تحضيرا لمعركة حياة أو موت ستنطلق بعد قليل عابرة ميدان عباب "بحر الظلمات".

لا يبالي ولد امحيميد بما قد تخبئه له الأيام الثمانية القادمة التي سيقضيها في أعماق البحر بحثا عن أسماك "الإخطبوط"، لذلك تراه بجسارته و شجاعته و عنفوان قدرته على رفع صوته الجهوري الذي ما إن يتعالى حتى يقفز "الأعوان الستة"، الذين سيرافقونه في رحلة السير نحو الظلام، إلى متن القارب الذي قرر ـ بعد أن يئس من اليابسةـ أن يطلب الرزق في عباب البحر الزاخر.

مصارعة الموج.....

عند نقطة تفريغ الشبابيك السمكية ترسو عشرات الزوارق على مرفأ انواذيبو تحضيرا لرحلة الصيد الإسبوعية، وهنا كي تعرف تفاصيل هذه الرحلة لا بد أن تستمع إلى محمد ولد ديدي المسؤول عن تزويد عدة بواخر صيد ليفك لك بأريحية طلاسم الرحلة قائلا:" تنطلق رحلة الصيد إلى أعماق البحر في المنطقة الواقعة بين خطي عرض (15ـ 17) وترابط مجموعة الزوارق هنالك ما بين 5 أيام إلى عشرة أيام بمعدل خمسة ركاب لك زورق، وتتوزع النوعيات التي يجلبها الصيادون من أعماق البحر إلى نوعين:

ـ صيد الأعماق: وهو صيد الأسماك الثمينة والنادرة جدا و تمتد مساحته من 20 إلى 30 في عرض المحيط الأطلسي باتجاه المياه الإقليمية وأشهر أسماك الأعماق الأخطبوط والحوت الضخم ويستخدم لهذا الصيد أكياس يلف فيها لحوم عبارة عن كمين ثم تنحبس فيها الأسماك الثمينة ،

ـ الصيد السطحي: وهو أقرب من الأول حيث تزحف الزوارق التقليدية عدة أميال داخل المحيط ورحلته أقل تكاليف من الأول وتسمى هذه الأسماك بالقشريات وتستخدم الشبابيك التقليدية لاصطيادها.

و رغم أن النوع الثاني من الصيد أقل تكلفة من الأول وأكثر أمانا إلا أنهما يجتمعان في المغامرة التي ألفها الصيادون الذين يعيشون في صراع مستمر مع موج ينتظر أن يقلب قواربهم التقليدية التي تتعطل يوميا في الأعماق، و قد تنقلب مرات ومرات لكنهم كما يقولون ينقذون هذه الزوارق من الغرق ويستمرون في معارك ليلية مع السفن العملاقة التي ـ فهمت اللعبة في موريتانيا و أدركت أن مبدأ حق القوي و حظ الضعيف لا بد أن يسود ـ، ولذلك لا تبالي بالزوارق الصغيرة التي لا تحمل ردارات و تقوم بركلها و رس الزوارق الصغيرة و هو ما يجعل البحارة يضطرون لقطع الحبال المتصلة بالرس حتى لا تغرق و يموت من عليها.

و حين نتحدث عن صراع الصيادين مع البحر نستمع إلى تفاصيل رحلة شاقة يسردها علينا بتفاصيلها الدقيقة القبطان أحمد:

"في الساعة الحادية عشر صباحا ولينا ديار انوذيبو الجميلة ظهورنا حاملين معنا مؤننا وحاجياتنا المكونة قنينة غاز بيتان و20 كلغ من الأرز و5 ليتر من الزيت وبرميلي بنزين بالإضافة لثياب بحرية ضخمة وألعاب ورق للتسلية.

الآن تبدأ مدينة نواذيبو الوادعة وهي تترآى من بعيد خلف الأمواج العاتية، نحن الآن في الأعماق و قد دخلنا منطقة الصيد لا جهة الآن تحدد سوى عن طريق جهاز تحديد المكان (GPS).

العمال الستة يتوزعون إلى عدة فرق، إحداها تقوم بتجهيز الموائد والثانية ـ رغم عوادي البحرـ وجدت فسحة لصنع الشاي، أما الباقون فيقومون بمد أكياس الصيد على امتداد البحر، بينما لا ينام القبطان و لا يمكنه أن ينام فهو متعلق بهذا المحرك مدة الرحلة تقريبا، هنا لا اتصالات مع الأهل ولا جوالات تعمل ولا علاقة بالحياة البرية سوى الجهاز المذكور آنفا الذي يحدد جهة الإنسان و بعده من هذا الزورق.

خيم الليل على الزورق الذي سيرسو في هذه المنطقة أياما من انتظار الحيوانات البحرية بمختلف أشكالها، الزورق يصارع الموج في الظلمات الثلاث ، ظلمة الليل و ظلمة البحر و ظلمة "قلب البحار" التي فرضتها عليه حيثيات البعد عن الأهل و الحنين إلى الأرض، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج الصياد يده لم يكد يراها.

البرد القارس يتضاعف ولم تعد الأغطية البحرية تقاومه، "إنما كنا نضطر في هذه اللحظة لإشعال نار في جانب من الزورق حتى نقاوم به موج البحر و موج البرد، هاتان الموجتان اللتان تغزوان ـ الغريب الذي حط الرحال فجأة ـ في عباب البحر الزاخر".

و يستطرد القبطان أحمد قائلا "بينما كنا في هذه الليلة الشاقة إذا بباخرة ضخمة تتراقص أضواؤها على وقع موسيقى رصينة يعزفها الموج، تقترب الباخرة شيئا فشيئا، هنا هلع القوم من هذه الباخرة التي لا تحمل بشارة لهم، فكم سمعوا و رأوا حالات لزوارق صيد تقليدية رفستها في أتون الأمواج بواخر الصيد العملاقة، قمنا على جناح السرعة ـ يقول أحمد ـ بإرسال إشارات إنذار وإطلاق مفرقعات في الهواء لكن أصحاب الباخرة التي لا تتعامل إلا مع الرادار الداخلي لم تبالي واقتربت منا حتى وصلتنا وحملت قاربنا بما حمل وكدنا أن نغرق و أوشكنا على الموت لكن القدرة الإلهية حفظتنا وقمنا على جناح السرعة بقطع حبال السفينة وتركها تصارع الموج، وبدأت رحلة المشقة إلى بر الأمان ولم نتوقف حتى وصلنا الشاطئ لان حبال السفينة قد قطعت، وشعرنا بإهانة شديدة بعيدا عن الأعين خاصة ان من تسببوا في إهانتنا هم بواخر أجنبية".

القبطان أحمد شدد على إيصال رسالة للرأي العام مفادها توفير ظروف آمنة للبحارة التقلديين حتى لا يتحولوا من صيادين إلى صيد ثمين للبواخر العملاقة التي لا تبالي بهذه الزوارق الصغيرة، كما شدد أحمد على أن هذه الحوادث متعمدة في أغلبها إذ كيف لباخرة عملاقة أن لا يكون لديها من الوسائل ما تحدد به محيطها واتجاهها، لكنها تحاول تصفية كل المنافسين، كما يقول أحمد.

 

وخارج البحر تجارة كاسدة..

الصيادون التقليديون رغم مغامراتهم ومعاركهم المستمرة مع الموج إلا أنهم عندما يعودون لا يجدون ثمار تلك الرحلات، و يضج صوتهم بالشكوى قائلا إن "أكثر الرحلات لا ترجع حتى محروقات الرحلة نفسها لكنهم تعودوا على هذا العمل وأصبحوا يألفونه ولا يبغون عنه بديلا حتى ولو كان تجارة كاسدة كما هو الحال هذه الأيام التي تسبق الراحة البيلوجية بقليل فللبحر راحتين كما يقول البحار محمد ولد ديدي الأولى من الشهر الرابع إلى الشهر السابع والثانية من الشهر التاسع إلى الشهر الحادي عشر من السنة، 

ويشكو البحار الوالد ولد أحمد محمود من إدارة الشركة الوطنية لتسويق الأسماك التي فرضت على الصيادين أسعارا لا تتناسب مع محروقاتهم ولا تعود بالنفع إلى تجار البحر، كما يحن في الوقت ذاته إلى الإدارة السابقة التي كانت تدعم الصياديين بأسعار تشجعهم على مواصلة المهنة، لكن الوالد يأمل أن تتخذ السلطات الموريتانية وخاصة الشركة الوطنية لتسويق الأسماك (SMCP) قرارا حاسما من شأنه أن يعيد الاعتبار إلى الصياديين التقليديين الذين يبذلون أرواحهم ويغامرون في خدمة المواطن الضعيف.

 

أحمد سالم ولد محمد فال ندد باحتكار خمسة تجار موريتانيين لاتحادية الصيد التقليدي وقال إن هؤلاء التجار الخمسة مسؤولون عن البواخر العملاقة في الميناء وما تجلبه هذه البواخر من أسماك رديئة يحتكرونه لأنفسهم ويقومون بتصديره إلى الأفارقة والعالم في وقت يحتاج فيه أكثر من 3500 سماك إلى هذه الكميات كما تحتاجه السوق الموريتانية الفقيرة حتى اليوم غلى نوعيات الأسماك.

هكذا نختم رحلتنا مع العابرين في صمت إلى عباب البحر الزاخر و هكذا حين نجد أنفسنا مرغمين على القول ـ متجردين من الحس الصحفي المحايد ـ إن من حق أبناء هذا الوطن الذي يزخر بحره بالخير و تنام أرضه على آلاف ملايير الدولارات، أن يجدو لقمة عيش دون عناء كبير.

 

مختار  بابتاح ـ نواذيبو ـ شمال موريتانيا (تحقيق أعد قبل عامين)

اقرأ أيضا