6 حزيران في الذاكرة الموريتانية .. الشروق ميديا تستنطق قادة الرأي عن نكسة 67

جمعة, 2020-06-05 21:41

(.. هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسؤولية تبعات هذه النكسة؟ أقول لكم بصدق - وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة - فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قرارا أريدكم جميعا أن  تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر.)   جمال عبد  الناصر  6 حزيران 1967

 

ـ بدر الدين : لم تفاجئنا النكسة العربية التي كانت سببا في قيام حركة الكادحين

ـ محمدو الناجي : كانت النكسة صدمة لنا كبيرة كقوميين عرب

ـ محمدن ولد اشدو : لن أنسى ذلك اليوم الكارثي القاتم

ـ الحسن  مولاي اعلي: النكسة بوابة دلف منها التيار القومي إلى مجاهيل اليسار الأيدلوجي

ـ محمد ولد الميداح : حرب حزيران على إحدى الجبهات

ـ محمد فال ولد بلال: ما عشناه في يونيو 67 كان انتفاضة

 

الشروق ميديا (نواكشوط) ـ الزمان 6 حزيران 1967م المكان جمهورية مصر العربية، يوم أسود في تاريخ مصر عبد الناصر، بل في العالم العربي أجمع، يوم اندحر العرب في هزيمة نكراء بعد حرب لم تعمر أكثر من 6 أيام سميت تلطيفا ب"النكسة" عناوين إخبارية رئيسية لم تسمع في إذاعة صوت العرب : آلاف الشهداء المصريين يتساقطون تباعا ..  إسرائيل تحتل سيناء و قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها مدينة القدس، وهضبة الجولان السورية.  

الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي تبعد آلاف الكيلومترات عن ساحة الوغى لم تسلم من نتائج تلك الهزيمة العربية النكراء وألقت بظلالها على المشهد السياسي حيث تم قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية  وتسببت النكسة في تحول حركات عروبية إلى يسارية تقدمية.

 كتب عن تلك الهزيمة عدة كتاب، وعلى طريقة ابي البقاء الرندي بكى شعراء موريتانيون مثل الشاعر محمدن ولد اشدو وهو يرى ازدراء العرب من نادلة في باريس سكبت كوب ماء على شاب في مقهى فرنسي والسبب أنه عربي، 

بينما صُدم الشاعر الثوري أحمدو ولد عبد القادر ولم يجد تعبيرا لتلك الهزيمة فالتزم الصمت وهو الذي لم يفوت فرصة في تخليد القضايا العربية الكبرى وكان قد كتب قبل سنوات مخاطبا جمال عبد الناصر: "إلى الرائد الشهم ذي المعجزاتْ..".

الشروق ميديا وتزامنا مع ذكرى 6 يونيو الثالثة والخمسين حاولت في هذا الملف استنطاق رجال عاصروا تلك الحقبة واختارت مجموعة من الشهادات لجيلين مختلفين لكنهم عايشوها وربما أدركوا يومها الأسود، كما استطاعت الحصول على صور من ارشيف أصحاب الشهادات  وهم : محمد المصطفى ولد بدر الدين ومحمدو الناجي ومحمدن ولد اشدو ومحمد ولد الميداح الملقب "دمبه" والحسن  ولد مولاي اعلي ومحمد فال ولد بلال.

 

 

ولد بدر الدين : لم تفاجئنا النكسة العربية التي كانت سببا في قيام حركة الكادحين

كنا جماعة من القوميين العرب بعضنا في الداخل وبعضنا في القاهرة للدراسة وعندما عدنا إلى العاصمة نواكشوط من القاهرة نهاية العام 1966 بعد أن عشنا تجربة جمال عبد الناصر سنتين وقعت حرب الأيام الستة بعد أشهر قليلة.

في الحقيقة لم تفاجئنا النكسة وما وقع فيها رغم الإنجازات التي حققها جمال عبد الناصر سواء على المستوى الداخلي :  الإصلاح الزراعي الذي غير حياة الفلاحين في مصر، وإقامة التعاونيات الاستهلاكية على النمط الاشتراكي.  أو على المستوى الخارجي:  الانتصار في العدوان الثلاثي على اسرائيل وابريطانيا وفرنسا وتأميم قناة السويس الاستراتجية.

 كما استطاع عبد الناصر أن يرفع رأس الأمة العربية فبالإضافة إلى تلك الإنجازات كان جمال أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز وساند حركات التحرر الوطني لتي كانت القاهرة مقرا لها، إذن لم يكن عبد الناصر زعيما مصريا فقط بل كان زعيما عربيا وإفريقيا وزعيما لحركة عدم الانحياز.

ومع ذلك لم تسلم فترة عبد الناصر الذهبية الممتدة من العام 1952 إلى حرب الايام الستة  من إخفاقات رافقتتها، منها إخفاقه في حرب اليمن والتي خاضتها مصر وأنهكت جيشها ، وفشله في تجارب الوحدة العربية مع سوريا والعراق وفشله في تأسيس حزب سياسي يقود ويوجه عمله، وظل الاتحاد الاشتراكي الذي هو حزبه إطارا   تسرب إليه المندسون  والرجعيون والرأسماليون وعملوا على إفشاله، وبالتالي فإن النكسة كانت متوقعة ومصر كانت مقدمة على أمر خطير.

انتهت حرب الايام الستة بهزيمة الجيوش العربية وهزيمة عبد الناصر على الأصح لأنها كانت تحت قيادته  وبتلك الهزيمة انقضت فترة تاريخية وبدأت حقبة أخرى مناهضة لفترة حكم عبد الناصر أبرز زعمائها السادات وحلفاؤه الذين كانوا يتحالفون مع أمريكا وقرروا نسف منجزات عبد الناصر وإقامة نظام موالي لأمريكا والقوة الرجعية والرأسمالية في مصر..

كنا كقوميين عرب غير تابعين لعبد الناصر ولكننا مناصرين له في مفترق  طرق إذ لم نعد قادرين على التمسك بخط عبد الناصر الذي لم يعد موجودا فكان لا بد لنا للبحث عن بديل، وكانت موريتانيا تعيش وضعا مختلفا عن وضع مصر فقد خرجت للتو من أحداث عرقية أدت إلى تطاحن القوميات فيما بينها وكانت فترة استقطاب بين القوميين العرب والقوميين الزنوج.

كانت حركة القوميين العرب تقدمية يسارية، وكانت هناك أجواء عالمية مواتية وهي انتشار الأفكار الثورية اليسارية ، منها انتصار القوميين في حرب اليمن الجنوبي، والانتصارات في فيتنام وكمبوديا ، وحركة  مايو في أوربا 1968 التي أطاحت بالجنرال ديغول كلها أحداث الهمتنا أن نراجع الفكر القومي العروبي ونتحول تدريجيا إلى الفكر الديمقراطي اليساري.  

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن موريتانيا المتعددة عرقيا تحتاج إلى فكر وحدوي، وكانت تلك الفترة قد اشتد فيها النقاش بيننا كمجموعة  وبين مجموعة القوميين الزنوج، وقد أدت تلك النقاشات إلى أطروحات تم إقرارها  من طرف مؤتمر "توكومادي" في 1 ابريل 1968 الذي يعتبر المؤتمر التأسيسي للحركة الوطنية الديمقراطية  وحزب  "الكادحين" .

 

 

محمدو الناجي : كانت النكسة صدمة لنا كبيرة كقوميين عرب

لا أريد أن نقول إننا كنا قوميين عرب فقط، بل كنا "تنظيميين" منخرطين  في حركة "القوميين العرب" برئاسة الدكتور جورج حبش ايام كنا في القاهرة، وقد تم تكويننا  في مدينة غزة وحينها كانت  تحت السيطرة المصرية.

عدنا إلى موريتانيا والفكر العروبي يجري في عروقنا وبدأنا الأنشطة وتكوينات الشباب على الفكر العروبي الاشتراكي، وجاءت نكسة حزيران 1967  لتشكل صدمة كبيرة لكل القوميين العرب فلم نكن وحدنا من عاش الصدمة عاشها معنا ناصريون وبعثيون، لكن صدمتنا كانت أكبر نحن المنخرطين في حركة القوميين العرب.

طبعا كنا مختلفين عن الناصريين لكن عبد الناصر كان رجلا مقدسا في تلك الفترة ونعول عليه ونعتبره الأقرب لمشروعنا القومي، هزمت مصر، وربما هزم المشروع الناصري، وبدأنا نفكر في بديل عن الفكر القومي.

في موريتانيا كانت هناك عدة قوميات أخرى تعمل بالتوازي مع القوميين العرب، ومع أننا في حركة " القوميين العرب" كنا نعتبر الناس سواسية كأسنان المشط إلا أن الأيام الستة والتنوع الموريتاني العرقي جعلنا نراجع مواقفنا على كافة الأصعدة، فبدأنا تأسيس الحركة الوطنية الديمقراطية وحركة الكادحين.

 

 

 

محمدن ولد اشدو : لن ينسى ذلك اليوم لكارثي.القاتم

وإن ينس، لن ينسى كذلك، ذلك المساء الكارثي القاتم!

تكوم مشلولا حول جهاز "ترانزستور" يتابع منه، من أمام بيته المتواضع، الذي كان قبلة القوميين، في بلاده النائية، النائمة على شاطئ المحيط الأطلسي، خطاب قائد راهن عليه وعلى بلده الكبير في تحقيق حلم العرب في النصر، والوحدة، وتحرير فلسطين! وفي لحظة من لحظات الفاجعة، كان لعبارة " قررت أن أتنحى" التي أعلنها الرئيس وقع الصاعقة في نفسه كما في نفوس عشرات الملايين العرب. شعر أن كبده قد تفطرت، وأن قلبه قد اجتث من صدره.. ألقى الجهاز من يده، وصاح بكل ما أوتي من قوة الشباب: لا لا لا! وانهار يبكي بحرقة أمام جمع يرى صرح آماله ومستقبل أهله ينهار هباء تذروه الرياح ويتلاشى كالسراب! ذعرت زهرته ذات الربيعين والنصف فألقت بنفسها منتحبة بين ذراعيه فأزاحها عن حضنه الذي لم يعد ملاذا زاخرا بدفء الأمة الذي كان يغمره! كم هي قاسية وموحشة، تلك الأوقات التي لا يجد فيها الرجال في أيديهم سوى البكاء! وما أعظم أولئك الذين يَثبُتون، ويُثبِتون في الدواهي أنهم أقوى من الهزيمة!

تذكر قول البارودي:

سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ** ولم يبق في كفي إلا التندما

وفي لمح البصر، أنقذ الشعب العربي في مصر وفي الوطن العربي الموقف، فزحف في كل مكان إلى هذا الميدان، وكل ميدان، يحمي مصر المستباحة العزلاء، وثورتها الضائعة، ورمزها المغدور، ويعلن "لا" مدوية للعالم!

وفجأة صارت بلاده القاصية المنسية النائمة في حضن المحيط جزءا ساخنا من الجبهة! فحاصر البداة العزل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في نواكشوط حتى تم جلاؤها وغلب "اليعقوبيون" أمريكا، فقطعت العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وبين أمريكا وبريطانيا، وتم إخراج الدبلوماسيين الأمريكيين صاغرين من موريتانيا في ظرف ثمان وأربعين ساعة.. وهب الموريتانيون  في حملة جمع تبرعات آتت أكلا يفوق التوقع؛ وانطلق الرئيس المختار ولد داداه - رحمه الله- يحدو إفريقيا، قطرا بعد قطر، حتى قطعت جميع علاقاتها مع "إسرائيل" يحتضنها اليوم أبناؤه وأحفاده، كما يحتضن الهشيم النار.

وصدحت حناجر الشعراء وألسنة وأقلام المفكرين والكتاب تحْدوا الأمة وتستشرف النصر وتصنع الفجر!

وفي أعماق الريف الموريتاني - بادية كيفة- غنت المرحومة امّانه بنت ابيسيف من كلماته نشيد:

كَرّو يا النساء ألطفال ** يحيـا للعروبه جمــال

لعْربْ مرّه كانْ انكصرو ** واحتــلّ لعْداءْ القنال
يَسْوَ، مَزَالُ يَنْتَصْـــرو ** وابيدُ قـوة الاحتــلال

وانتقل الرئيس جمال عبد الناصر إلى رحمة الله قبل أن يعيش لذة النصر الذي نسج خيوطه وخلق شروطه. ولكن النصر تحقق في أكتوبر سنة 73. ولم يحتفل - هو الآخر- بنصر أكتوبر الذي طالما حلم به واستشفه في رحم الغيب، وذلك لسببين؛

أولهما: أنه كان يومها يعيش مختبئا تحت الأرض مطاردا من نظام بلاده.

وثانيهما - وهو الأهم-: ما شاب ذلك النصر من شوائب كانت آخرتها توظيف تضحيات ملايين الأحرار في صلح كارثي منفرد رديء سخّر مصر العظيمة وارتهنها لأعدائها الأمريكيين والإسرائيليين.

 

 

 

 

محمد ولد الميداح (دمبه): حرب حزيران على إحدى الجبهات

المكان : المذرذره...
الزمان : 5 يونيو 1967

في الصباح الباكر و أنا في طريقي إلى المدرسة، لاحظت أن حدثا هاما يقع أو هو على وشك الوقوع... المينة استيقظت أسرع من وقتها المعتاد و السكان في حالة استنفار قصوى.

كنت منذ أيام التقط السمع لما يقوله الكبار و سجلت اهتمامهم الزائد بالإذاعة و "بصوت العرب من القاهرة" على وجه الخصوص.

الحماس هو سيد الموقف : زغاريد هنا و هناك... هتافات... شعارات تتردد على أفواه المارة... ما الذي حرك سكان عاصمة ايكيدي فجأة و هم المعروفون باللامبالاة و "تزواز لخلاگ ؟

لم يكن ذلك بمناسبة استقبال وفد حكومي و لا حملة انتخابية... فما هو يا ترى؟ إنها الحرب التي اشتعلت في الشرق الأوسط ! العالم العربي يصحو و سيستعيد فلسطين السليبة.

كان يوما استثنائيا في المذرذره و كنا نحن، تلاميذ الابتدائية، أشد الناس حماسا... فقد شرح لنا "شيوخنا" ما يجري و قمنا على طريقتنا بالمساهمة في المجهود العربي الموحد، فأمطرنا قاعات الدراسة بالحجارة و تفرقنا في الشوارع مكررين : جمال... جمال ... جمال !

كل الكبار مشغولين بمتابعة الأنباء التي تتدفق أولا بأول عبر الإذاعة الوطنية و كانت تبث تقارير عن المعارك الدائرة و أناشيد حماسية و موسيقى عسكرية ...

مازلت أتذكر الشعارات التي كان المذيعون يرددونها عبر الأثير و كنت أظن أنهم يراسلون من ساحة الوغى... كانت أصواتهم جميلة و معبرة عن جسامة الموقف...أذكر منهم السيدين افال بابا (بالفرنسية) و دحنه حمود و المرحوم محمدن ولد أحمدو سالم (بالعربية).

لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص و اهتمام السكان بجبهة القتال : أخي الأكبر الحضرمي- أطال الله بقاءه - يضع مذياعا صغيرا على أذنه و يتفاعل مع الأنباء الواردة تفاعل من يتابع مباريات رياضية

 ساخنة...

الأخت المرحومة محجوبة تقف في منتصف الشارع الكبير صحبة جمع من نساء الحي و تشدو بصوتها الشجي من مقام "فاغو" في أعلى "آزاي" سمعته في حياتي :

في الجبن عار و في الأقدام مكرمة
و المرء بالجبن لا ينجو من القدر..."

سبعيني في أوج الحماس ينظف "خماسية" قد صدأت و طال عهده باستعمالها...

كان الرجال كلهم يتمنون لو طاروا بلا أجنحة لأخذ الثأر من جيش الاحتلال... و بعض الشباب يتوجهون إلى مكتب حاكم المقاطعة و يطلبون منه بإلحاح أن يرسلهم إلى جبهة القتال لمد يد العون لإخوانهم المصريين و السوريين و الأردنيين.

أمضى جنودنا المجهولون يومهم الأول و هم في الخطوط الأمامية، مستأنسين بما تنقله الإذاعة من بشائر و بما ينسجه الخيال من مُنٓٓى سرعان ما يعتبر مروجوها أنها حقيقة..

و شيئا فشيئا بدأ صوت البي بي سي في لندن يعلو على صوت العرب في القاهرة و جاء الرأي الآخر مبددا الحلم الجميل و مخلفا في المنازل و الشوارع شعورا بخيبة الأمل و سحبا ذاكنة من الحزن و الأسى.

و جاء الخبر اليقين : آمريكا تتدخل بقوة و العرب يعدون الخسائر : تدمير 70 - 80% من العتاد الحربي و 25000 قتيل و مئات الآلاف من الجرحى و إسرائيل تحتل قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء و الضفة الغربية -بما فيها القدس الشرقية- وهضبة الجولان...

ثم جاءت الطامة الكبرى : الرئيس جمال عبد الناصر يستقيل و يقترح لخلافته صديقه زكريا محي الدين.

و "انتبهت" المذرذره " بعدما زال الرحيق و أفاقت ليت أنها لا تفيق"...

أما الأمة العربية، فقد شُغلت ردحا من الزمن بقرار الأمم المتحدة رقم 242 و "قمة اللاءات الثلاثة" و "قمة الخرطوم" و "الأرض مقابل السلام" "و أسلو" إلى آخره من المهدءات...

و أخيرا، و بما أن الشعر ديوان العرب، فقد اتفقوا على تفعيل نصيحة ابراهيم ناجي في قصيدة الأطلال :

فتعلم كيف تنسى و تعلم كيف تمحو

و لن أنهي هذا المقال بمسحة تشاؤم و قد تفاءل شاعري المفضل، المرحوم نزار قباني في نهاية البائية التي يخاطب فيها تونس الخضراء :

فلربمـــا تجد العروبة نفسهــــا

و يضيئ في قلب الظلام شهاب

و لقد تطيـــر من العقــال حمامة

و مـــن العباءة تطلـــع الأعشاب

 

 

الحسن ولد مولاي اعلي: النكسة بوابة دلف منها التيار القومي إلى مجاهيل اليسار الأيدلوجي

كنت غلاما يافعا، يوم الخامس من يونيو  1967,  أقضي معظم وقتي في متابعة الإذاعات التي كانت اجهزتها بالمناسبة، قد بدأت تنتشر، بعد ندرة؛  وكنت مدمنا على متابعة عدة برامج في الاذاعة الوطنية، اهمها برنامج الشباب الذي كان يقدمه الثلاثي عمر والد رحمه الله، وعبد الله ببكر والناها سيدي، ثم برنامج الادب الشعبي الذي يقدمه العميد الراحل محمدن ولد سيدي ابراهيم؛ وكنت اراسل البرنامجين باستمرار.

ادرت مؤشر الراديو ضحوة، على الاذاعة الوطنية الموريتانية، كالعادة، فما صدقت اذني انها تستمع منها إلى الاناشيد العربية الحماسية، من قبيل: بني وطني، وموسيقى المارس العسكري؛ إلى ان قال المذيع: "صوت العرب من القاهرة"، قم بادر بعده من يقول هنا نواكشوط، نحن ننابع معكم بث إذاعة صوت العرب من القاهرة، لمتابعة أنباء معركة الشرف في مواجهة العدوان الصهيوني الغادر ،على مصر والاردن وسوريا.!!

استمرت الاذاعة الموريتانية تتابع صوت العرب، وتقدم الببانات العسكرية والأناشيد الحماسية، وكان مستلبو صوت العرب وأنا منهم، يصدقون البلاغات الكاذبة، ويمنون انفسهم بالنصر المبين، إلى أن وقع الفأس في الرأس باستقالة جمال عبد الناصر واعترافه بالهزيمة؛ وهي الاستقالة التي رفضتها الجماهير، وارغمت "الزعيم" على التراجع عنها، لتتحول الهزيمة بالإعلام المضلل إلى "نصر" لان العدوان فشل في إسفاط النظام " التقدمي"!؟

كانت النكسة كارثة، لا تقل في وقع احباطها عن النكبة ؛ وقد تكشفت الحقائق المرة تباعا، فكانت فصولا سوداء متلاحقة، من الهزائم والخذلان والإحباط واحتلال الأرض، واستباحة العرض .

قامت موريتانيا الصغبرة الضعيفة الخارجة قبل سبع سنوات من منكب النسيان، ومن بين مخالب ومطامع القوى الدولية والجيران  قامت بعمل بطولي نادر  فقطعت العلاقات الدلوماسبة مع الولايات المتحدة لدورها في العدوان، واستطاع المرحوم المختار ولد داداه أن يقطع يد الصهيونية القذرة في افريقبا، فقطع القادة الافارقة ، علاقاتهم بنظام العدوان.

وعلى المستوى الشعبي الوطني كانت النكسة بوابة دلف منها الكثير من قادة التبار القومي العربي الموريتاني الذي صنع ورافق الاستقلال، إلى مجاهل اليسار الايديولوجي، بسبب الإحباط من النظام الناصري، كما خلفت النكسة ركاما من الأدب، شعرا ونثرا، فصيحا وشعبيا.

 

 

 

محمد فال ولد بلال: ما عشناه 67 كان انتفاضة

يونيو -5 - 1967
يوم 5 يونيو 1967، تغير كل شيء في العاصمة و في البلد عموما. خرج الطلاب من المدارس، وأغلقت الأسواق، ورفع الأذان، و تجمهر الناس في الشوارع حول الإذاعات.. لا صوت يعلو فوق صوت "إذاعة موريتانيا" من نواكشوط و"صوت العرب"من القاهرة. كانت موريتانيا حقا في حالة حرب. أمر الرئيس المختار ولد داداه [رحمه الله] بإلغاء برامج الإذاعة الوطنية مُطلقا لكيْ تبُث حصريا القرآن الكريم في أوقاته المُعتادة، و نشرات الأخبار، وما عدا ذلك مكرس 24/24 ساعة لبث البيانات العسكرية الصادرة عن الجيوش العربية، و أناشيد "فاغو".. فقط لا غير!
خرجنا من الثانوية صبيحة يوم 6_6 واتجهنا بالمئات صوب السفارة الأمريكية مسلحين بالحجارة وحاملين لافتات منددة بالعدوان وبموقف الولايات المتحدة. ساعات طويلة من المناوشات مع الشرطة و الحرس الوطني. وفي اليوم الموالي، أعلن عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وصدر قرار بطرد السفير الأمريكي واعتباره "شخص غير مرغوب فيه".
وما إن سكتت المدافع حتى انطلقت حملة وطنية لجمع التبرّعات لصالح فلسطين، و تولى الرئيس شخصيا الإشراف عليها لتشمل جميع المدن و الأرياف على عموم التراب الوطني...و رغم صعوبة الأوضاع آنذاك، حيثُ لا طرقات معبدة، و لا هواتف ثابتة و بالأحرى منقولة، و لا فضائيات، و لا إذاعات جهوية، و لا أموال... رغم ذلك كلّه، فقد تكللت تلك الحملة بنجاح باهر..
‎في بوادي مقطع لحجار، كنت أسمع ليلا و نهارا عن التبرع لفلسطين..و عن هدية فلان و فلان و معاطي الفلاننيين..إلى أن وصلت البعثة خيامنا. رأيت عددا من الهدايا: بقر و أغنام و حمير و مفروشات و حلي نساء... ومن ضمن الهدايا جمل أبيض، طويل القامة، سريع الخطى يدعى بو اگليده" كنت أركبه و أجله.. كل ذلك لفلسطين أو على الأصح ل"بيت المقدس"..
‎رأيتُ بأم عيني كيف انتفضت المرأة في خيْمتها هناك...في مرابع آفطوط...بعيدا عن الادارة و الرئيس و الاعلام و السعي للوظيفة أو الترقية...لتجُود بأحسن و أجمل ما عندها من حلي و مفروشات لفائدة فلسطين..و رأيتُ بأم عيني كيف تسابق الرجال أداء للواجب الديني و الأخلاقي...و لن أنسى ذلك المشهد المهيب وكيف تكون النتيجة عظيمة، و رائعة، و مُبْهرة...عندما تقفُ "القمة" و "القاعدة" على قلب رجل واحد.
و باختصار شديد، أقول و بدون مُبالغة: إنّ ما عشناهُ في يونيو 1967 ..انتفاضة!
رحم الله السلف وبارك في الخلف.

 

إعداد : المختار بابتاح

اقرأ أيضا