رواية (أعشقُني) للكاتبة الأردنية سناء الشعلان (الفصل الرابع)

أربعاء, 2017-04-12 00:48

 (البُعد الرّابع: العرض، لا تتجاوز مساحة

 الكون عرض أحزاني)

لم أعد أراني، فقط هي الحاضرة في هذا العدم الممتلئ، هي من تسكن مجال الرّؤية والحقيقة والوجود، هي من تعترف بها قوانين الطّبيعة والوجود والفيزياء كلّها، هي من تكرّس بحضورها غيابي، وهي من يكرّس حضوري حضورها، ولا شيء غير حضورها الذي يصفع ضعفي ووحدتي وحضوري الغائب المشظّى، أستطيع أن أدّعي أنّها ميّتة، الأوراق الرّسميّة والحكومة والمخابرات والأطبّاء والصّحافة وذاكرة الموت جميعهم يقولون ذلك بصراحة، ولكنّني وحدي أعلم أنّها موجودة، وأنّني الغائب الحق، هي الكأس، وأنا المدام المراق، وما قيمة مدام  مهدور أمام حقيقة وجود الكأس؟!

في حضرة جسدها أشعر بكامل الغربة والتّطفّل، ولذلك اعتدتُ منذ أسابيع على أن أجلس في الظّلام كي لا أراه، ولا يراني، فقد بتّ أكره طقوس الاستئذان التي ألزم نفسي بها تجاهه، أخجل كلّما حمّمته، انزعج عندما أعرّيه لحاجة أو علاج، أعاند طاقته دون رحمة قبل أن أستسلم له، فأحكّه في منطقة فرج أو ثدي أو فخذ، أو أكشـف عورتـه مـن أجـل تبـرّز أو تبـوّل، وعندما يُخرج ريحاً – رغماً عنيّ- أبالغ بالتّقزّز منه، وأمنّي النّفس وأعّللها بأن أغادره في يوم قريب.

هو متسع لي، ولكنّني على الرّغم من ذلك أشعر بأنّه ضيق عليّ حدّ الاختناق، وكثيراً ما يخون حركاتي، فهو أضعف من ذاكرة القدرة عندي، أقصر من جسدي السّابق، أنحف منه، أضعف منه، لا يملك أيّاً من مرونته أو قوة عضلاته أو حِرَفيّة حركاته، ناهيك عن رقّة جلده، وتراخي بعض عضلاته، وهذه البروزات المقزّزة في الثّديين والبطن هي محركات دائمة لبؤسي، عندما أنظر مباشرة بنظرة عاموديّة منحدرة من العينين إلى أسفل فالأنف فالذّقن تحجب هضبتا الثّديين وجبل البطن رؤية تجويف مابين الفخذين والأقدام، بل تحجبان رؤية موطئ قدمي، فأصاب بكآبة حقيقيّة، هذا أمر مقرف.

تخلّيت تماماً بفعل المرض والتّحذيرات الطّبيّة وجسدي المسروق عن رياضاتي الأثيرة كلّها وحركاتي ذات العنفوان الذّكوريّ المدجّج بقوة البنية ومراس التّدريب العسكريّ الطّويل والمنتظم.أنا الآن باختصار جسدها، ولاشيء غير ذلك، ولأنّني جسدها بتُّ أتوارى في الظّلام لأمارس عادة التخيّل والاسترجاع والعودة إلى الزّمن المسروق حيث كنتُ رجلاً حقيقيّاً، أمّا الآن فأنا جسدها، والمُعذّب رغم أنفها وأنفي بمرضها الحمل السّخيف، لم تتـح لي بعد فرصة دراسة هذا المرض، والقراءة حول تاريخه وأسبابه وعلاجاته، أنا أثق الآن مرغماً  في أطبائي، وأسلمهم أمر علاج هذا المرض، والحقيقة هي أنّ تكالب الأمراض والعلل عليّ جعلتني ضعيفاً في حق نفسي في الدّفاع عنها إزاء هذا المرض، وليس كذباً أو مبالغة أو شططاً إن قلت إنّني أجد متعة غريبة في نفسي في الاحتفاظ بأكبر عدد من العلل والمشاكل الصّحيّة والتّوعكات انتقاماً منها ومن جسدها، ومن شيء آخر لا أعرف له اسماً، لعلّي أريد أن أنتقم بشكل سرّي من هذه التّجربة السّخيفة التي حولّتني إلى شبه إنسان، وشبه جسد، وشبه عقل، وشبه حالة، قد يكون من الأجدر أن أُحسن الانتقام من جلاديّ الأطبّاء  والمخابرات والمجلس القضائي الكونيّ الأعلى والمهتميّن والإعلاميين وكلّ من لا أعرف ولا يعرفني من بشر فضلاً عن الذين أعرفهم أجمعين، فأنتحر، وأحبط لهم مخطّطاتهم جميعها، وأهزم للأبد هذه التّجربة المؤلمة المهزلة، هذه فكرة جريئة واقتراح موغل في الشّجاعة، ولكن من قال إنّني أملك الشّجاعة العمليّة الكاملة لأنفّذ هذا الانتحار؟! ما زالتْ نفسي تتمرّد على تمردّي، وتهزأ من نوبات كبريائي وألمي وندمي، وتدير لي ظهرها، وتطير بخفة وزهو نحو شمس يوم جديد، لا تزال آمال النّفس تكبر باطراد وصمت وانتظار المجهول مثل هذا المـرض العجيب الذي يكبر يوماً بعد يوم كجرم سماويّ متوحّش، فيدفع بطني إلى الأمام، خارجاً على رفضي له، ومعتدّاً بنشاطه وحركته.

وحده جسدها هو مَنْ استطاع أن يهزمني، ووحده مَنْ استطعتُ أن أذلّه، بل أن أكرّس له كلّ وقتي وجهدي من أجل أن أهزمه، منذ أيام لم أحمّمه، رائحة أنثويّة طاغية تشتمله، منذ أيام وعندي دفق من سائل أبيض لزج يتنزّى منه مرافقاً لألم وتشنّجات في البطن والظّهر، فأهمله، ولا أحدّث الأطبّاء عنه؛كي أعذّبه بقوة، لم ير الشّمس منذ أيام، وقليل من الطّعام والشّراب كان نصيبه، فضعف المراقبة الطّبية عليّ جعلني أتفرّغ تماماً لقهره ولإذلاله وللتجبّر على هزيمته المزعومة أمامي، الشّعر الجّميل اللّزج يعاني من تشابكات مريرة من قلة تمشيطه وتسريحه، والفخذان وجلد ما تحت الثّديين يعانيان من تقرحّات شديدة ومؤلمة من طول الاحتكاك وملوحة التّعرّق، وأنا لا أبالي به على الرّغم من ألمه الرّهيب الذي يضرب في رأسي، ويلكز أعصابي كلّها دون رحمة، ولكنّني لن أستسلم له، سأعذّبه حتى يستسلم لي، وأنتصر عليه، فأعرف على مهل جارح ما هي مظاهر استسلامه، وما هي مطالبي للنّصر، ولكنّني مصمّم على موقفي، وهذا قراري المصيريّ الذي لن أتراجع عنه أبداً.

جسدها لي، وأنا مَنْ له أن يمسك بخيوط اللّعبة كلّها في هذه اللّحظة، ولن أخسر مهما كلّف الأمر، هذا الجسد بات لي، ولم يعد لها، قريباً سأطردها حتى من جسدها، سأجري عمليات تجميل، لأحوّل هذا الجسد الأنثويّ إلى آخر يضجّ بالرّجولة، سأخضع لعملية إزالة لورم الحمل، وسأحلق شعر رأسها من جديد، فأنا أكره شعرها الجّميل؛لأنّها تحبّه، وإن تأكّدت بطريقة ما من أنّها لا تحبّه، فسوف أربّيه مديداً نكاية بها ولو كبّدني ذلكَ دفع غرامة ماليّة لحكومة المجرّة،وفي اللّحظة المناسبة سأهجر هذا الجسد، وأرحل إلى جسد آخر، وأهبه للخراب والموت الذي كان قدره حتى ظهرت في حياته، نعم سأنتصر عليها بها، سأكسرها فيّ، لن أفكر فيها أبداً،  حتى اسمها لن أحاول  أن أعرفه، لا أريد أن أعرف عنها أيّ شيء، ومن يحتاج  إلى معرفة ذلك، مهمتي الآن هي استرجاع باسل المُهريّ، ولاشيء غيره، ولتذهب ابتسامتها الورديّة إلى الجحيم الكونيّ، ولتغرق المحيطات جميعاً -بلا رحمة- خضرة عينيها المائيتين، أريدها أن تكون نورساً مكسور الجناحين، قدره أن تنهشه أمواج البحر، وأن تسحقه لعبة المدّ والجزر، فيصبح منارة مهجورة متأبّدة لا يقصدها ضالٌ في أيّ حال.

 

 

 

 

 

 

 

اقرأ أيضا