استقالة من جوقة الشرف الفرنسية.. رسالة مفتوحة إلى ماكرون

سبت, 2020-11-14 19:26

ترجمات "الشروق ميديا" - لا أشعر اليوم بالفخر لأن أتشارك نفس وسام الشرف مع صمويل باتي لأسباب عميقة ومقدسة.. لقد حاولت يا إيمانويل ماكرون أن تجعل الغلاة أبطالاً.

السياق: هناك صحيفة شبه سرية، هي شارلي إبدو التي تسمت في السابق أيضاً "هارا-كيري"، اتخذت الاستفزاز أسلوباً لها وربطت لقمة عيشها بالإساءة. وما دامت هذه الانحرافات منحصرة داخل فرنسا أو الدائرة المحدودة للناطقين بالفرنسية، فقد كان ممكناً ألّا يأبه لها المرء كثيراً. ففي الواقع: "قبل يناير 2015، كانت شارلي إبدو قد خرجت للتو من فترة من المصاعب المالية. بـ 60 ألف نسخة مطبوعة وأقل من 30 ألف نسخة مبيعة في الأسبوع (نحو ثلثها عبر اشتراكات)..." (المصدر: صحيفة لوبوان).

كانت تلك البطة الكسيحة المنتمية إلى صحافة المجاري تبحث إذن بطريقة يائسة عن حيلة للخروج من القاع الذي قيدتها فيه لامبالاة الجمهور. وهكذا خطر لمروجي هذه الخِرقة أن أفضل طريقة لإحراز الشهرة هي مهاجمة أحد المشهورين.. ومن ذا الذي يكون أشهر من نبي الإسلام؟ وقد انتحل فريق شارلي إيبدو بوقاحة الصحيفة الدانماركية التي كانت سلفاً مخزياً له، ونشر على الصفحة الأولى رسمًا بالكاد يخفي البؤس العقلي لمؤلفه. كل ذلك لهدف واحد ضمني، هو إحداث ضجة لزيادة المبيعات وإنقاذ الصحيفة من شفا الإفلاس. وحتى الآن، ما من مجد في هذا الأمر ولا بطولة فيه. لا شيء سوى إدارة تمتاز بقِصر النظر لفريق تحرير يحاول إنقاذ صحيفته من الغرق.

وقد تبين أن شارلي إبدو لم تقدر تماماً حجم هذه الإساءة، ولا عواقبها العالمية، على ما يقرب من ملياري مؤمن، قائدهم ومرجعهم وهاديهم هو النبي محمد (عليه الصلاة والسلام).فهذا الرجل الاستثنائي يترأس مجتمعاً إنسانياً متعدد الأعراق، يتجاوز الحدود الإقليمية وحدود الدول، وتمتزج داخله جميع الشروط الاجتماعية، منذ 14 قرنًا! من الذي يجادل في ذلك؟ والقرآن، الذي كان مبلِّغه للناس، هو الكتاب الأكثر تداولاً عبر كل العصور. أكثر من 3 مليارات نسخة مباعة أو مهداة، وهو قيد التداول على نحو لا انقطاع فيه! ولا وجه للمقارنة هنا مع أعداد النسخ المطبوعة من شارلي إيبدو أثناء ذروة الجدل، أو على الأصح، الفقاعة الإعلامية التي أشعلتها للأسف قلة هامشية من الطبقة السياسية والفكرية الفرنسية، في ازدراء لجميع القيم التأسيسية للحضارة الكونية، التي نفهمها على أنها ملتقى الاختلافات الذي يعزز ويعبر عن أفضل ما في الإنسان. وفي الواقع، يتشكل جو وخيم من الوصم والتمييز ضد المجتمع الإسلامي عبر العالم ويمكن لهذا أن يتسبب، إذا لم يتحرك ذوو العقول المستنيرة، في مأساة عالمية لها عواقب لا يمكن التنبؤ بها.

السيد الرئيس إيمانويل ماكرون، في هذا السياق المحفوف بالمخاطر، كان منتظراً من زعيم فرنسا أن يتحلى بقدر معين من الاعتدال، أو على الأقل من التحفظ، إضافة إلى مقدار من الحنكة يُعِين على التقدير الصحيح للمخاطر الجيوسياسية والإستراتيجية لمواجهة مع العالم الإسلامي، بيد أننا نرى عكس ذلك تماماً! فمنذ إعادة نشر الرسوم المسيئة والتي لا يمكن أن يقبلها المسلمون، كنتَ نصيراً لهذا التجاوز. لقد حاولت أن تظهر الغلاة بمظهر الأبطال. في تحدٍ للألم العميق الذي لحق بمليارات المؤمنين.

وعبر جعل رهانات السياسة الفرنسية الداخلية نصب عينيك، ولا سيما كسب الشرائح المتطرفة من الناخبين، تباشر استغلالاً مصطنعاً للألم المفهوم لدى عائلات الضحايا، لتحاول أن تنصب به دعامة لشرعية شعبية تفتقر إليها كثيراً. وتفعل ذلك بإفراط. لم تسلك السلطات الدانماركية هذا المسار غير المعقول، وإن رئيس الدولة يجب أن يكون على ذات المسافة من المجموعات التي تكون الأمة التي يقودها. ولم يعد في وسع أحد أن ينكر بعد الآن وجود المسلمين مكوناً ضمن الأمة الفرنسية! وسواء جاء ذلك بسبب إرث التاريخ الاستعماري لفرنسا، أو من حالات اعتناق الإسلام المتزايدة لفرنسيين من سكان البلد الأصليين، فإن الإسلام في فرنسا أمر واقع ويتقدم باستمرار، رغماً عن أولئك الذين يريدون اختزال فرنسا في خيالاتهم عن عالم انقضى، وولّد حقائق إنسانية وسكانية واجتماعية جديدة.

وبصرف النظر عن أن شكوكاً متزايدة تحوم حول إلقاء اللوم على الإسلام والمسلمين بطريقة منهجية في أي هجوم إرهابي، فقد حان الوقت للتساؤل لماذا أردت الشرطة قاتل صموئيل باتي بدلاً من القبض عليه من أجل التحقيق. فهو لم يكن إلا مراهقاً ولم يكن سلاحه غير... سكين، في مواجهة فرقة تدخل من الشرطة الفرنسية. كان في مواجهة محترفين إذن. وإن التفكير ليس ممنوعاً كما أتصور...

فيما يتعلق بصمويل باتي، قد يكون من الحكمة التساؤل عمّا إذا كان من الشرعي، في ديمقراطية تتأسس على ثلاثية الحرية والمساواة والأخوة، أن يطلب من بعض التلاميذ في فصله المغادرة لأن الحصة التي سيقدمها قد تصدمهم. لقد كان السيد باتي يعلم إذن، منذ البداية، أنه سوف يسبب الأذى. على الأقل لبعض تلاميذه الذين لم يرتكبوا أي ذنب. كيف يمكن وصف هذا الموقف؟ حرية تعبير أم استفزاز لا طائل منه؟ إن هذا النقاش حول المضمون يجري قتله إغراقاً عبر الإجماع السطحي الذي تفرضه الآلة الإعلامية الجبارة، والتي تمنعنا حتى من التفكير.

وبناء عليه، فما الفكرة الشريفة التي قررتَ باسمها أن تمنح السيد باتي تكريم الحاصلين على وسام جوقة الشرف الفرنسي؟ أمن أجل تصرف لا يليق من حيث الأساس بمعلم جدير بهذا الاسم؟ إن مسؤوليته هي الرقي بعقول طلابه إلى مرحلة النضج، ومنحهم القدرة على العيش في عالم متعدد الأعراق ومتعدد العقائد حيث يتمتع كل كائن بالحق الثابت في العيش في سلام، لكن السداد لم يحالف السيد باتي في مهمته. وبغض النظر عن العواطف، يجب علينا أيضاً أن نستخدم العقل دون انفعال ولا بغضاء. وفي جميع الأحوال، يجب أن تظل الجمهورية منصفة وعلى نفس المسافة من الجميع، فذلك هو شرفها.

الاستقالة: عندما كُرمت وحصلت على وسام جوقة الشرف الفرنسي، شعرت بدرجة معينة من الاعتزاز. لقد شرفني الالتحاق بالدائرة المرموقة لأولئك الذين تحتفل فرنسا بجدارتهم رغم تقلبات التاريخ. وقد ارتديت دائمًا بفخر الوردة التي على ظهر سترتي باعتبارها رمزاً للإخاء الذي تنبغي إعادة اختراعه، والحرية التي ينبغي الاحتفاء بها، والمساواة التي يجب إحرازها.

ومع أني ناطق بالفرنسية ومحب لجوانب ثقافية وفنية فرنسية عديدة، فأنا رجل مسلم وأفريقي وأسود. وأنا أخاطبكم من على هذا المرتفع.

إنني اليوم لا أشعر بالفخر حين أتشارك نفس وسام الشرف مع صمويل باتي، لأسباب عميقة ومقدسة. وإن الدفاع عن عرض النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) أهم عندي كثيراً من الغرور المجرد بالتكريمات الدنيوية. ولكوني مسلماً، فأنا أكرر عدة مرات كل يوم شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله". وهذه القناعة تمنح معنى لكل أفعال المسلم، في حياته اليومية وفي جميع الظروف. إن علي أن أقول مع كل نفس: احمد الله وصلِّ على رسوله! لأن نظرتنا إلى الفانين تتفحص أفق الحياة الأبدية عبر الإيمان واليقين والثقة.

ولذلك فنحن لا نعيش في نفس العالم يا سيد ماكرون!

إننا قرابة ملياري إنسان نتوجه 5 مرات في اليوم على الأقل إلى نفس القبلة (الكعبة) لتأكيد خضوعنا طوعاً للأمر الإلهي الذي بلّغنا إياه نبي الإسلام. ومن منظور عالمك أنت، تعتبرنا بالتأكيد متخلفين عقلياً! ولن أقول لك ما الذي نظن أنك عليه، لأن التسامح الديني هو السمة المميزة للإسلام، آخر دين نزل به الوحي، والذي جاء مصدقاً للرسالات التي سبقته! إن التوراة والإنجيل والقرآن كلها رسالات خرجت من مشكاة واحدة. وموسى وعيسى ومحمد إخوة وأنبياء أرسلهم الله جميعاً! هذه هي المبادئ التأسيسية التي لا نقاش فيها في الإسلام، الذي هو دين يمثل خلاصة الأديان واستعادة الوئام على مستوى البشرية جمعاء.

باسم كل ما سبق، وباسم كل ما بين جوانحي ممّا يستحيل التعبير عنه، أستقيل من نظام جوقة الشرف الفرنسية وأعيد للسفارة الفرنسية في داكار الشارات والشهادة المتعلقين بذلك.

من أجل عرض الرسول محمد!

(عليه صلوات الله وسلامة وعلى آله الأطهار).

أمادو تيديان وون - وزير وسفير سابق.

ترجمة: الشروق ميديا | المصدر: موقع سينيبلاس (السنغال)

لقراءة المادة الأصلية اضغط: هنا.

اقرأ أيضا