"فورين بوليسي": واشنطن تشوش على استراتيجية فرنسا للخروج من مالي

سبت, 2021-06-19 15:17

ترجمات "الشروق ميديا" | تريد باريس الخروج من المستنقع لكن بايدن لا يمد أي حبل نجاة. وبعد أكثر من ثماني سنوات على تدخل فرنسا في مالي لدحر تمرد إسلامي في المستعمرة الفرنسية السابقة، أوضح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن كيله قد طفح.

لكن فرنسا تكافح لكسب التأييد الأمريكي لاستراتيجيتها للخروج في وقت ينظر فيه الرأي العام الفرنسي بتوتر إلى حرب بعيدة ومفتوحة دفاعًا عن حكومة فشلت مرارًا في تحقيق السلام مع جيرانها الشماليين أو احتواء تصاعد الأعمال الإرهابية. وتأتي التحركات الفرنسية بعد أسابيع فقط من إقدام الضباط الماليين على انقلاب عسكري هو الثاني في أقل من عام، مما أثار مخاوف في باريس بشأن مصداقية أحد أهم شركاء الحكومة الفرنسية في مكافحة الإرهاب بالمنطقة.

وفي خطاب ألقاه في وقت سابق من هذا الشهر، أعلن ماكرون عن خطط لسحب قوة يزيد قوامها عن 5000 جندي فرنسي من المنطقة في إطار عملية برخان، لتترك وراءها قوة متبقية من القوات الخاصة الأفريقية والدولية القادرة على تنفيذ هجمات دقيقة على المقاتلين الإسلاميين. وقال ماكرون في مؤتمر صحفي إنه "حان الوقت لتحول عميق" في العمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل.

ويأتي الانسحاب الفرنسي بعد تراجع الولايات المتحدة في حملاتها لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك خطط تقليص وجودها العسكري في سوريا والانسحاب من أفغانستان قبل نهاية العام.

وقال ميشيل دوكلو الدبلوماسي الفرنسي السابق الذي يعمل مستشارًا خاصًا لمعهد مونتين ومقره باريس: "الاستراتيجيون في باريس مقتنعون بأن هناك نوعًا من التحول في النسق الغربي السائد لمكافحة الإرهاب. إن فكرة محاربة الإرهاب بنشر قوات في الخارج، ووضع جنود على الأرض في حروب بعيدة، هذه فكرة لم تعد في مزاج القوى الغربية". وأضاف: "الفرنسيون مشهورون باستقلالهم لكنهم لا يستطيعون السير ضد الاتجاه العام في الغرب".

ولا ينبغي النظر إلى الانسحاب الفرنسي في منطقة الساحل على أنه جزء من "استراتيجية خروج" صلبة بل باعتباره جزءا من الانتقال من عملية أمنية فرنسية تقليدية إلى جهد أوسع متعدد الأطراف للتصدي للتحديات الأمنية والسياسية والإنمائية في منطقة الساحل، كما يرى شارل تيبو، وهو زميل زائر في معهد واشنطن.

ويضيف تيبو: "يتمثل أحد الأهداف الرئيسية في زيادة الإسهامات الأوروبية والدولية. وما هو متوقع من الولايات المتحدة ليس قيادة هذا الجهد -وهو ما لا ترغب فيه- بل أن تكون داعمة وأن تقدم مساهمة. لكن المسار طويل الأمد يتعلق بتقوية الجيوش الوطنية في المنطقة لإدارة هذه العمليات بنفسها".

وتسعى فرنسا جاهدة إلى تجميع فسيفساء من الفاعلين الأمنيين المتباينين -بما في ذلك القوات الخاصة الفرنسية والأفريقية والأوروبية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وخبراء المخابرات الأمريكية- في استراتيجية متماسكة قادرة على احتواء المقاتلين الإسلاميين في المنطقة والحفاظ على الاستقرار في مالي وجوارها الأوسع.

لكن باريس تواجه مقاومة في الأمم المتحدة من واشنطن تتعلق بجانب حاسم من استراتيجيتها بمنطقة الساحل، وهو محاولتها توسيع الدور الداعم للأمم المتحدة في جهود مكافحة الإرهاب. وقد أثارت الولايات المتحدة مخاوف بشأن كلفة اقتراح فرنسي لتوسيع بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي، وأعربت عن قلقها من أن دعم الأمم المتحدة لعملية أفريقية لمكافحة الإرهاب يمكن أن يورط المنظمة في معركة إقليمية لمكافحة الإرهاب ليست الجهة المناسبة لتنفيذها.

وفي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أخرت الولايات المتحدة مبادرة فرنسية للسماح بإرسال 2000 جندي إضافي من قوات حفظ سلام تابعين للأمم المتحدة إلى مالي حيث سيكلفون بالحد من العنف في وسط مالي. وكان الفرنسيون يأملون الحصول على الموافقة على توسيع البعثة بحلول 30 يونيو، عندما ينتهي التفويض الحالي للبعثة، لكن التحفظات الأمريكية جعلت ذلك غير مرجح.

وقد أشارت الولايات المتحدة إلى عدم وجود خطة مفصلة للأمم المتحدة للمهمة على نحو يحدد تكاليفها وواجباتها، وإلى الحاجة إلى إخطار الكونجرس في غضون أسبوعين من الموافقة على التزامات جديدة تتعلق بحفظ السلام، وفقًا لمصادر دبلوماسية مطلعة على المفاوضات. لكن الولايات المتحدة لم ترفض الاقتراح الفرنسي بشكل قاطع، تاركة الباب مفتوحًا لاتفاق محتمل أو تسوية على الطريق. وتحجم واشنطن أيضًا عن مكافأة الحكام العسكريين لمالي، الذين استولوا على السلطة في انقلاب في مايو، من خلال توسيع بعثة الأمم المتحدة التي تكلف بالفعل أكثر من مليار دولار سنويًا وهي مكلفة بمساعدة باماكو على بسط سيطرتها على البلاد بأكملها.

كما يروج الفرنسيون لمبادرة منفصلة يقودها أعضاء مجلس الأمن الأفارقة، بما في ذلك النيجر، لإقناع مجلس الأمن بإنشاء بعثة دعم تابعة للأمم المتحدة لمساعدة القوات الأفريقية، بتمويل من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وقد أعربت الولايات المتحدة أيضا عن مخاوفها بشأن هذه المبادرة، بحجة أنها ستحوّل بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة -المكلفة بتحقيق الاستقرار في البلاد وتعزيز عملية سياسية للسلام بين الحكومة والجماعات المسلحة في شمال مالي- إلى حرب محفوفة بالمخاطر لمكافحة الإرهاب. كما تشعر واشنطن بالقلق من أن مجموعة الخمس بالساحل، وهي قوة لمكافحة الإرهاب تتكون من قوات من المستعمرات الفرنسية السابقة في المنطقة، قد لا تفي بمعايير حقوق الإنسان المطلوبة في عمليات الأمم المتحدة.

ورغم خلافاتهما، تعاونت الولايات المتحدة وفرنسا بشكل وثيق في منطقة الساحل، حيث زودت واشنطن القوات الفرنسية بمعلومات استخبارية عن العمليات الإرهابية ووفرت بعض الدعم اللوجستي. ويكتسب دور فرنسا المهيمن في المنطقة أهمية خاصة في وقت تسعى فيه الصين وروسيا لتوسيع نفوذهما في المنطقة، بما في ذلك مالي، حيث ورد أن روسيا دربت بعضًا من مدبري الانقلاب، وفقًا لصحيفة ديلي بيست.

ويأتي التراجع الفرنسي في وقت لم تحجز فيه إدارة بايدن بعد مكانها. حيث لم يعين بايدن بعد كبار المسؤولين المعنيين بالمنطقة. فماري كاثرين فّي، وهي موظفة في السلك الدبلوماسي اختيرت لتكون كبيرة الموظفين في وزارة الخارجية المعنيين بإفريقيا، لم تحصل بعد على موعد لجلسة تثبيت في الكونجرس. وبينما انخرطت الإدارة الجديدة في الأزمة في منطقة تيغراي الإثيوبية، لم تعلن بعد عن خطط لتسمية مبعوث خاص لمنطقة الساحل، ولم تظهر بعد الاستراتيجية الأمريكية الموعودة منذ فترة طويلة لمنطقة الساحل.

ولكن يبدو أنه توجد بعض الرغبة داخل الإدارة لإعادة الانخراط في إفريقيا في المناطق التي اختار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التقليل من شأنها أو تجاهلها. وقد أوردت صحيفة نيويورك تايمز هذا الأسبوع أن البنتاغون يدرس إرسال عشرات القوات الأمريكية إلى الصومال بعد انسحاب أمر به ترامب أواخر العام الماضي.

وأعربت إدارة بايدن عن دعمها الواسع لجهود مكافحة الإرهاب الفرنسية في منطقة الساحل وتراجعت عمّا أصرت عليه إدارة ترامب من إلزام بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (المعروفة بالاسم الفرنسي المختصر "مينوسما") والتي تضم حوالي 15000 جندي وشرطي منتشرين في مالي، بوضع خطة لتقليص حجم عملياتها.

وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين في قمة فبراير لدول الساحل الخمس: "نحن ندعم أهداف التحالف الدولي لمنطقة الساحل لتنسيق الدعم الدولي للمنطقة، من بناء قدرتها على مكافحة الإرهاب إلى دعم التنمية الاقتصادية". وتقود المجموعة الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب. كما أعرب بايدن عن دعمه لمجموعة الخمس، قائلاً إنها تحالف "يؤدي عملا حيويا لتحقيق الأمن والاستقرار والحكم الرشيد في منطقتكم. والولايات المتحدة ملتزمة بأن تكون شريكًا قويًا لكم".

لكن بلينكين قال إن الاستراتيجية العسكرية لمكافحة الإرهاب لم تكن كافية لتحقيق استقرار دائم في المنطقة، مما يبرز الحاجة إلى تعزيز سيادة القانون وتعزيز الخدمات العامة والفرص الاقتصادية، وضمان محاسبة قوات الأمن على انتهاكات حقوق الإنسان.

وأضاف أن "عدم الاستقرار والعنف من أعراض أزمة شرعية الدولة. فالمظالم الاجتماعية التاريخية، والافتقار إلى الخدمات العامة التي يمكن النفاذ إليها، والإقصاء من العمليات السياسية -خاصة بالنسبة للأقليات أو المجتمعات المهمشة- كل هذه الأمور تقوض شرعية الحكومات في نظر الناس".

وستكون رغبة ماكرون في الخروج تحديًا كبيرًا لنهج إدارة بايدن في المنطقة. وحتى الآن، استند بايدن إلى التقليد المألوف: الاعتماد على الفرنسيين باعتبارهم مركز ثقل في المنطقة ودعم حملات مكافحة الإرهاب المتصاعدة بالاستخبارات والجوانب اللوجستية مع وجود محدود لقوات قتالية أمريكية. وبينما يمثل التهديد الإرهابي في منطقة الساحل خطراً قريبا لدى الفرنسيين، كما يقول الخبراء، فإن الولايات المتحدة لديها قلق أقل بشأن قدرة هذه الجماعات على ضرب الأراضي الأمريكية.

ويقول كاميرون هدسون، وهو زميل رئيسي غير مقيم في المجلس الأطلسي ومسؤول سابق في وزارة الخارجية: "إن الرسالة التي ظللت أتلقاها هي: هذه مشكلة فرنسية، على الفرنسيين التعامل مع هذا. كانت هذه رسالة تلقيتها من جميع الوكالات: الفرنسيون لديهم مصلحة في الأمر أكثر مما لدينا".

وترجع جذور الأزمة الحالية في منطقة الساحل إلى التدخل الذي قاده حلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011، والذي روجت له فرنسا بقوة وأسفر عن الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي.

وقد أعطت الفوضى التي أعقبت ذلك دفعة للمتمردين في المنطقة والمتطرفين الإسلاميين، لا سيما في مالي، حيث شن تحالف من متمردي الطوارق هجومًا ضد القوات الحكومية في شمال مالي، واستولى على حوالي ثلثي أراضي البلاد وأدى إلى انقلاب عسكري نفذه الجنود الغاضبون مما اعتبروه غياب دعم حكومي للقتال. وقد اختطف تحالف من المتطرفين الإسلاميين، بما في ذلك مجموعة متحالفة مع القاعدة، تمرد الطوارق، وفرض حكمه على شمال البلاد وهدد بالتحرك نحو العاصمة باماكو.

وفي يناير 2013، شن الجيش الفرنسي عملية لاستعادة السيطرة على الشمال وسحق الحركة المتطرفة. وقد حلت في العام التالي محل هذا التدخل عملية برخان، التي كُلفت بمحاربة المتطرفين الإسلاميين في جميع أنحاء منطقة الساحل. وقدمت الولايات المتحدة للفرنسيين معلومات استخباراتية وبعض الدعم اللوجستي.

ومنذ ذلك الحين، سعى الفرنسيون إلى توسيع نطاق الدعم الأوروبي والدولي لمهمتهم لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. وساعدت باريس في إنشاء مجموعة الخمس "جي 5"، وهي قوة إقليمية لمكافحة الإرهاب دربتها فرنسا وتتألف من قوات من خمس مستعمرات فرنسية سابقة هي بوركينافاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر. وظلت هذه القوة الأفريقية -المكلفة بتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب عبر الحدود- حيوية دوماً لخطط فرنسا طويلة المدى لتقليص وجودها العسكري في المنطقة. لكن القوة أثبتت عجزها عن الاضطلاع بالعمليات بمفردها على مستوى الإقليم، كما أنها تفتقر إلى التمويل والبنية التحتية اللوجستية لمواصلة عملياتها بشكل مستقل عن الدعم الفرنسي.

بيد أن المسؤولين الفرنسيين يرون في رغبة ماكرون في الخروج علامة على أن مهمة برخان ستنقسم الآن إلى قسمين. سيوجد حضور ميداني أصغر ومهمة موجهة لمكافحة الإرهاب بشكل أكثر تحديدًا، وجهود لتقديم المشورة والمساعدة للقوات المالية الناشئة مع توفير القوات الغربية للمعلومات الاستخبارية والمؤشرات في الميدان.

بيد أن شعورا بالإحباط ساد في باريس، يعود تاريخه إلى ما قبل الانقلاب العسكري في مايو، بشأن عدم إحراز تقدم سياسي في البلد الذي مزقته الحرب وفشل باماكو في تولي زمام مكافحة الإرهاب، حيث سئمت القوات الفرنسية مهمة العمل المباشر وباتت تتجه نحو أسلوب تقديم المشورة والمساعدة الذي أشاعته القوات الغربية في العراق وسوريا. وقد علقت فرنسا مؤقتًا تعاونها مع القوات المالية في وقت سابق من هذا الشهر ردًا على الانقلاب، في محاولة لإعادة الانتقال السياسي إلى مساره. ومع ذلك، يوجد تخوف من أن الوجود الدولي قد يضعف دوافع باماكو لتنفيذ إصلاحات إذا استمرت مهمة برخان في الاضطلاع بجهد استئصال الإرهابيين نيابة عن الحكومة الوليدة.

وفي غضون ذلك، ضغطت فرنسا بنجاح محدود، لتفويض بعثة "المينوسما" لتقديم الدعم لعمليات مكافحة الإرهاب التي تنفذها مجموعة دول الساحل الخمس. وفي عام 2017، وافق مجلس الأمن على خطة مدعومة من فرنسا لتزويد القوات الأفريقية بالغذاء والوقود وإجلاء الجرحى، لكن فقط عند دخولها الأراضي المالية.

وإدراكًا لقيود المهمة الأفريقية، عمل الفرنسيون لإنشاء قوة أوروبية جديدة تحت باسم "تاكوبا"، أنشئت العام الماضي لتدريب قوات مكافحة الإرهاب الأفريقية وتوفير المشورة لها. ومن المتوقع أن تؤدي تاكوبا دورًا أكثر بروزًا في مكافحة الإرهاب بعد الانسحاب الفرنسي.

في حديثه في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي، قال ماكرون إنه دعا جميع شركاء فرنسا للانخراط في القوة، مضيفًا أنه إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لإضافة قوات خاصة، فذلك "أمر مرحب به"، وهي إشارة رأى فيها المراقبون بابا مفتوحا أمام مشاركة البنتاغون في المهمة. وقد أسهمت السويد في قوة "تاكوبا" بوحدة استجابة سريعة بقيادة مروحيات ومن المتوقع أيضًا أن تقدم كل من إيطاليا والدنمارك إسهامات كبيرة. لكن ألمانيا رفضت المشاركة في العملية، على أساس أن دستورها يحظر التورط في عمليات عسكرية خارجية.

ويقول آرثر بوتيليس، المستشار الرئيسي في معهد السلام الدولي إن الطموح "كان إضفاء الطابع الأوروبي على الجهود، لكن فرنسا تمكنت حتى الآن في الغالب من حشد حلفاء غير تقليديين، بما في ذلك التشيك وإستونيا والسويد، وما زال العمود الفقري لقوة العمل الخاصة هذه فرنسيًا". ويضيف أن "الإعلان الأخير عن انتهاء عملية برخان قد يثير مخاوف جديدة بشأن مستوى الدعم، وبالتالي تحاول فرنسا إشراك الأمريكيين بشكل أكبر".

الكاتبان: كولوم لينش كاتب مساهم رئيسي في "فورين بوليسي"، وجاك ديتش مراسل "فورين بوليسي" لشؤون البنتاغون والأمن القومي.

المصدر: فورين بوليسي

للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.

اقرأ أيضا