أيام في الريف الموريتاني / مختار بابتاح (الحلقة3)

أربعاء, 2015-04-08 01:52

في ذلك المساء البدوي  الصامت نزلت عند خيمة الصوف المضروبة في الطرف الشرقي من الحي، أنظر بين الخيام فأرى قرص الشمس الوردي يكاد أن يجنح ويختفي تماما في شجر القتاد والطلح، أغنام الحي تتقادم تباعا من جهة الشرق والحملان قد تم تسكينها في الحظائر، الجميع هنا مشغول بقدوم المواشي واستقبالها  إلا السيدة المضيفة صاحبة خيمة الصوف، فكانت منشغلة بضيافتي، كانت تطالبني بإلحاح: لا بد أن تجلس ونصنع الشاي  ثم تبيت معنا الليلة عساك أن تصادف راكبا في الحي تسأله عن نوقك.

مباشرة أنخت البعير وتركتُ ابنها الصغير يحط رحلي ويقيد بعيري، جلست على بعد أذرع من السيدة المسنة، تقابلني بضفائرها السميكة، كانت تسألني: من أين قدومكم؟ ومن أي الأهالي أنتم؟ ومنذ متى تبحثون عن ضالتكم؟

بينما كنت أجيبها إذ قدم علينا أب العيال الذي عانقني بحرارة وأجلسني على الحصير الخشبي ثم بدأ السمر البدوي..

هي ليلة بدوية بامتياز، الحديث كله عن مشاكل المواشي وكثرة ضوال الغنم والإبل، وتأخر المطر عن وقته، وحركة للذئب في هذا العام غير مسبوقة وهو ما جعل كل سكان الحي يصنعون تماثيل عند مداخل الحي يخوفون بها السباع المفترضة،  ورغم أن السيد غير متخصص في الإبل فهو يرعى الغنم وينميها، إلا أنني استفدت منه كثيرا فأخبرني بالمناطق التي تتكاثر فيها الإبل، وحدثني عن قوافل مرت عليه وهو يرعى مواشي الحي، كان حديثه شيقا جدا، يضاحكني، ويحكي علي بعض النكت البدوية، يضيء لي القمر عن ثرمته العلوية ووجهه المتجعد وشعر راسه المغبر ولحيته المتطايرة، عندما حان ووقت العشاء رافقني إلى المسجد الذي هو عبارة عن كوخ محوط بالأشواك، وصليت وراء إمام الحي الذي يرتدي دراعة زرقاء وفي منتصفه حزام أشك هل كان الإمام يرتدي إزارا أم لا؟

تناولت وجبة "العيشْ الميْدومْ" مع مضيفي على إيقاع موسيقي عجيب فأنا أتخطف اللقمة بسرعة حتى لا تتقاطر على دراعتي المتآكلة  ثم أترك له الفرصة ليتناول لقمته بحركة أسرع من الإناء الضيق وهكذا كأننا في لعبة خالية من أي حديث آخر.

هيا إلى النوم لقد أوت الأسرة المضيفة إلى فراشها وتركوني أمام الخيمة في العراء، لم استطع النوم، لم يكن السبب في ذلك أن عقارب قد قتلت بجانب فراشي في هذه الليلة، فهذه الحشرات آلفتها وتعايشت معها، وإنما لأن حركات المواشي بجانبي وخاصة تلك التي لم تغلق عليها الحظائر ـ كانت تتخطاني، وكانت الأغنام تتبول على فراشي، أستمع إلى أصوات الحظائر، نعاج تصيح، ومعزاة تستغيث، وحملان يتلاعبون مع أمهاتهم، بينما كنت أستمتع بالنظر إلى القمر ونوره الذي يتبدد في الأفق وسط نسائم خلابة تعكرها روائح الحظائر العفنة إذ تنفس الصبح حاملا معه برنامجا بدويا جديدا، ومع غبش الفجر وتباشير الصباح كان مضيفي يسابق الصبح ويخرج بالمواشي قبل طلوع الشمس.

الآن أخرج بحثا عن بعيري أتتبع أثره لقد خرج شمالا في أرض رملية كنت أمشي على خطاه ويختفي أثره إن وصلت أرضا صلبة، وجدته أخيرا وعدت إلى مضيفتي فرأيت الفتيات ذوات الرؤوس المحلوقة من النصف الخلفي، بجانب الأخريات اللواتي ارتدين ملاحف وهن نصف منقبات تقابلن مع أقداح اللبن والسيدة تقوم بتعذيب بعضهن إن هي لم تتناول قدحها بسرعة بواسطة أعواد غليظه تضغطه على ساقها حتى تقوم بالصراخ والابتلاع السريع، ثم تقوّم بعضهن بخيط تلفه على سواعدهن حتى تعرف هل زاد وزن الطفلة اليوم؟

انطلقت من الحي مع طلوع الشمس رفقة دليل خرّيت سيهديني الطريق ويوصلني إلى حي من أحياء الإبل ولي مع هذا الراكب قصة ممتعة جرت لي معه في الطريق..

اقرأ أيضا