سعيد ولد همدي : سيرة رجل نادر / سيدي ولد الأمجاد

أحد, 2015-08-23 23:53

التحق الراحل الكبير السفير محمد سعيد ولد همدي بالدراسة النظامية عام 1949 في مدرسة كنوال بأطار، وكان من زملائه آنذاك في أول فصل دراسي الرئيس السابق: معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع، ومحمد الأمين ولد حمود، وهو حاليا رئيس اتحادية التجارة   ورئيس اتحادية الصيد البحري، والمقدم: إبراهيم ولد علي انجاي، والمرحوم شيخه ولد بيدي، ومحمد ولد داهي، وهو ابن أخت الرئيس  حاليا لاتحاد أرباب العمل، ومولاي ولد القطب رحمه الله. كان هناك تفاوت في الأعمار بين الجميع ، وكان معاوية ولد الطايع أكبر من  هذه الجماعة بسنتين تقريبا، فقد دخل إلى المدرسة وعمره تسع سنوات، كان أصدقاء المدرسة الأولى في كنوال  على علاقة وطيدة جدا، كأي أطفال، كان محمد سعيد ولد همدي ينام مع صديقه الحميم معاوية ولد سيد احمد الطائع ( الرئيس السابق)  في بطحاء أطار، وقد درس  وإياه القرآن الكريم على جويرية بنت الطايع، رحمها الله ، وكان  معاوية التلميذ يقيم مع المرحوم سعيد ولد همدي  أحيانا في منزل همدي، وكانت المدرسة في كنوال عبارة عن بيوت بسيطة من الطين، أما الفصل الذي كان هذا الجيل يتعلم فيه فيتكون من ستة وعشرين تلميذا تقريبا ، وكانت إدارة المدرسة تستقطب إليها أبناء القبائل في آدرار، فتعطي لكل قبيلة حصة معينة من التلاميذ، وكان أول معلم يدرس أصحاب الراحل سعيد الفرنسية من منطقة أركيز،  من  قبيلة إدابلحسن - كما حدثني المرحوم سعيد نفسه في مقابلة سابقة معه عام 2007  ويدعى معلم الفرنسية هذا :  مختار ولد بوب، وكانت المدرسة تضم سكنا داخليا للطلاب القادمين من الوديان المحيطة بأطار، وهو عبارة عن مخيم جميل يوفر للتلامذة الوجبات الغذائية وخاصة وجبة الغداء، كان مدير المدرسة فرنسيا اسمه لكينغ le Guinnec، بعد ذلك تولى إدارة المدرسة سيدي محمد ولد الديين (سنة 50 – 1951م) وقد أصبح فيما بعد وزيرا للداخلية، كانت مدة الدراسة الابتدائية ست سنوات، ويذكر الراحل سعيد ولد همدي  خلال إحدى لقاءاتي الكثيرة معه  أسماء في هذه الفترة تولت إدارة مدرسته الأولى في كنوال مثل المرحوم : محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود، الذي أصبح بعد ذلك وزيرا للخارجية.

والشيخ ماء العينين روبير رحمه الله، كما درسهم  أيضا  في كنوال فرنسي اسمه ريشار أصبح مدير المدرسة فيما بعد.

خلال النشأة الأولى لفقيدنا الكبير محمد سعيد ولد همدي ، كانت طبيعة الحياة في أطار بسيطة جدا، غير أن الساحة السياسية شهدت بعض الأصداء آنذاك مثل انتخابات 1951 بين سيدي المختار ولد يحيى انجاي وولد حرمه، وفي سنة 1952م  انطلقت الحملة الانتخابية لاختيار مستشار من منطقة آدرار في الجمعية الإقليمية الفرنسية والتي فاز فيها الدي ولد سيدي باب أمام أحمد ولد المختار ولد أحمد عيده أمير آدرار.

وكان من أهم الأحزاب السياسية في أطار حزب الوفاق، وحزب الاتحاد التقدمي الموريتاني.

أما الإمكانات المادية فقد كانت شحيحة جدا، وكان المرحوم محمد سعيد ولد همدي بحكم أن والده همدي من أغنياء أطار في وضع مادي جيد، حيث كان يذهب  إلى المدرسة مع ابن أخته: محمد ولد داهي على دراجات هوائية صغيرة، لقطع تلك المسافة الكبيرة بين منزل همدي في وسط أطار وموقع المدرسة في كنوال، بعد ذلك قررت إدارة المدرسة وضع سيارة لنقل الطلاب بشكل جماعي.

وصل سعيد  إلى السنة السادسة ابتدائي وشارك مع زملائه الأطاريين في مسابقة الدخول إلى الإعدادية ،  فلم ينجح منهم سوى خمسة فقط من أصل 26 مترشحا، وهؤلاء الخمسة الأوائل هم: 

معاوية ولد سيدي أحمد الطايع

  سالم ولد أحمد سالم ولد ببوط

  أحمد ولد سيدي ولد رمظان

  محمد ولد ترياف الملقب (مرسل)

  محمد سعيد ولد همدي

وكان مجموع الناجحين في هذه السنة على المستوى الوطني أربعة وستين طالبا فقط.

وقد حصل تلاميذ أطار على منح دراسية باستثناء  محمد سعيد ولد همدي ومحمد ولد ترياف باعتبار أنهما من أسر غنية، رفضت إدارة المدرسة التكفل بمصاريفنا الدراسية خارج مدينة أطار

ذهب سعيد ولد همدي  للدراسة في أندر بالسنغال وأصبح طالبا هناك في ثانوية فيدرب، أما زملاؤه  فقد ذهبوا إلى إعدادية لكوارب، ولم يواصل الدراسة النظامية منهم فيما بعد سوى معاوية ولد سيد أحمد الطايع وسعيد ولد همدي نفسه 

في أندر التي كانت  آنذاك عاصمة لموريتانيا والسنغال معا، مر سعيد ولد همدي بتجربة هامة وغنية قادته  فيما بعد لمواصلة الدراسة الثانوية في فرنسا، حيث اختار له والده همدي إحدى المدارس الفرنسية الخاصة من أجل مستقبل أفضل.

أما بدايات العمل الوظيفي بعد مشوار الدراسة فكانت في ميدان الصحافة حيث عمل المرحوم محمد سعيد  من سنة 1968 – 1971 في أول طاقم مهني يتولى إصدار جريدة "الشعب" -ولم تكن يومية حينها- وهكذا بدأ هذا الرجل النادر من نوعه  مشواره الإعلامي مع فريق من الصحفيين الشباب اللامعين المتوثبين للعطاء بإخلاص وروح وطنية في بلاط صاحبة الجلالة وكان هذا الفريق الصحفي الأول  يضم: محمد يحظيه ولد أبريد الليل، ومحمدن ولد حامدن، ومحمد محمود ولد ودادي، وكوليبالي بكاري (والد عمدة تفرغ زينة سابقا و عضو مجلس الشيوخ حاليا عن حزب تواصل )، بعد ذلك أمضى المرحوم سعيد ولد همدي  فترة  خصبة من حياته المهنية في الإذاعة الوطنية تولى فيها العديد من المسؤوليات الصحفية منها رئيس التحرير في الاذاعة 

وكان يتولى وزارة الإعلام أيامها معالي السيد أحمد ولد محمد صالح حفظه الله وفي سنة 1972 – 1975: عمل الراحل محمد سعيد ولد همدي  مستشارا في سفارتنا بالقاهرة، وعاش هناك حرب رمضان المجيدة سنة 1973.

ومن 1975-1978م  عين سعيد مستشارا في السفارة الموريتانية بواشنطن.

ثم عاد هذا الاعلامي الدبلوماسي بعد ذلك إلى انواكشوط رئيس مصلحة في وزارة الخارجية، وفي 6 يوليو 1978 توجه من جديد  إلى الرباط مستشارا بسفارتنا في المغرب، ليقع انقلاب العاشر يوليو نفس العام  بعد أيام قليلة من وجوده هناك.

بتاريخ 24 يوليو 1978: تم تعيينه أمينا عاما لرئاسة الدولة، ثم استفاد المرحوم سعيد ولد همدي من عطلة صحية للعلاج في فرنسا لمدة سبعة شهور حتى مايو 1979م

وفي سنة 1980 توجه الراحل  للعمل في بعثنا الدبلوماسية لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك. وابتداء من سنة 2001 أصبح سفيرا لموريتانيا لدى الأمم المتحدة.

وقد ذكر لي السفير سعيد رحمه الله أنه أثناء عمله في القاهرة بداية السبعينات   ، قام بزيارات إلى بغداد ودمشق من أجل تهيئة افتتاح سفاراتنا الأولى فيها، حيث تولى بنفسه وضع  الدراسة والتقويم اللازمين ، واختيار مقر السفارة وسكن السفير، وكان يعمل  أيضا في الخرطوم بالسودان لتوفير جوازات السفر والإجراءات المتعلقة بالجالية الموريتانية في السودان، والتي يعود تواجدها في هذا البلد الشقيق إلى رحلات الحج الأولى وقوافل العلماء الشناقطة قبل الإستقلال بقرون من الزمن 

ويؤكد سعيد رحمه الله في لقاءاتي المتكررة به في أطار ونواكشوط من هذا الجانب ، على أهمية اختيار الدبلوماسيين ومراعاة ما يناسب كل بلد معين من الصفات والمؤهلات الشخصية، فهناك بلد معين من المناسب أن نبعث إليه فقيها أو شاعرا أو مؤرخا أو اقتصاديا مختصا في التجارة، وهناك بلد يمكن أن نبعث إليه شخصا له امتداد اجتماعي وبشري مقيم لديه، وهكذا اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب. كل سفارة يجب أن تكون مصنفة، وهذا الفقه الدبلوماسي على حد تعبيره ،يجب أن يكون موجودا لدى وزراء خارجيتنا، وهو يعتقد رحمه الله  أن نجاح الدبلوماسية الموريتانية منوط بهذا البعد،إذ  لا يجب أن ترسل  الدولة إلىأي بلد كان  شخصا غير ملم بالعلاقات الثقافية والتاريخية العميقة بين بلاد شنقيط وهذا القطر: شخصا لا يعرف كيف كان الناس يحجون من هنا على الحمير وراجلين مرورا بالسودان وما لي والنيجر وتشاد، ويضيف في هذا السياق  أنه أثناء عمله في السودان  كأول دبلوماسي موريتاني هناك وفي منطقة كردفان بالذات وجد فيها تيجانيين تتلمذوا صوفيا على الشناقطة، هؤلاء الذين أثروا بعمق في نسيج المجتمع السوداني، ووصلوا إلى مراتب سياسية ورسمية عالية فيه، مثل: محمد صالح الشنقيطي الذي كان رئيسا للبرلمان السوداني ، معتقدا رحمه الله  أنه من الضروري الآن قيام رابطة للأخوة الموريتانية السودانية، ترعى التاريخ والعلاقات المشتركة و تضم مثقفين وإعلاميين ورجال أعمال من كلا البلدين وهو ما تم فيما بعد ، إضافة الى  افتتاح سفارات في البلدين الشقيقين  تنشطان حاليا لتطوير هذه العلاقات في ستى المجتلات ،لأن السودان وموريتانيا - يقول لي سعيد رحمه الله -  أمامهما مستقبل كبير، وللأسف العرب بالذات -يضيف الراحل الكبير -  غير مهتمين بالسودان، إنه بوابة العرب الحقيقية والعمق الاستراتيجي الكبير بالنسبة لهم.

منذ بداية مساره  الدبلوماسي كان الفقيد محمد سعيد ولد همدي مولعا بالقراءة واقتناء المصادر والمراجع العلمية في كل أنحاء العالم ، حتى أصبح بحق ذلك الدبلوماسي المثقف القادم من شارع الصحافة ومهنة الاعلام الذي تخرج من أعلى مدارسه في فرنسا جمهورية الأنوار وحرية الرأي والكلمة ، إنه عاشق الكتب والتراث وإليه يعود الفضل في إنشاء مشروع التراث الثقافي الموريتاني والحصول على تمويله والذي ساهم بشكل هام في صيانة وتثمين جوانب عدة من الثقافة الموريتانية المادية واللامادية

 

في القاهرة بداية السبعينات، كان المرحوم سعيد ولد همدي  مولعا بشراء الكتب لتأسيس مكتبة شخصية واسعة، وتعود هذه التجربة إلى طفولته الأولى بمدينة أطار الغراء ، حيث كان والده همدي يقتني له الكتب من الفرنسيين المقيمين في أطار والزائرين لولاية آدرار بحكم مكانته الكبيرة في موريتانيا وعموما وأطار خصوصا كأحد أعيانها وتجارها الكبار والذي اشتهر بالكرم  وسعة العلاقات مع مختلف الأطراف ، وهكذا حصل الفتى سعيد في القاهرة على أمهات الكتب العربية والإسلامية الشهيرة  كالأغاني لأبي فرج الأصفهاني  ولسان العرب لابن منظور  وإسلاميات طه حسين، وأحمد أمين وخالد محمد خالد، وسيرة ابن هشام والطبري، وكان رحمه الله يقوم بتجليدها وإرسالها إلى البلاد، وفي فرنسا كان يشتري  كل الكتب المتعلقة بموريتانيا وإفريقيا الغربية.

إن أهم لقب يمكن أن يطلق في اعتقادي على الفقيد الراحل السفير محمد سعيد ولد همدي وأخاله من أحب الألقاب إليه - لأنه خارج نشاز الألقاب والمجاملات الرسمية والوظيفية - هو لقب" عاشق الكتب والتراث" ، فالرجل لا يجد لذته الحقيقية إلا بين أحضان الكتب وفي أعماق التراث الوطني وهو بذلك يجسد كثيراً الرمز الأكثر تعبيرا عن الدبلوماسية الثقافية في نموذجها الموريتاني  الأصيل والمعاصر معا 

رحم الله محمد سعيد السفير المثقف والكاتب اللامع والباحث المجد والمناضل الحقوقي من أجل العدالة والمساواة

 

وإنا على فراقه لمحزونون

ولكن

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته.     يوما على آلة حدباء. محمول

وداعا محمد سعيد ولد همدي  إلى جنة الرضوان

 

وداعا يا نخلة الفكر والثقافة  والتحرر  للإنسان

بقلم : سيدي ولد الأمجاد

رئيس مركز أمجاد للثقافة والإعلام

أطار بتاريخ : 23 أغسطس 2015

اقرأ أيضا