المنهج التربوي للمحظرة الموريتانية: فضائله ونواقصه/ احمد سالم ولد مقام

خميس, 2014-09-11 00:07

المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فإني سأتناول في هذه العجالة موضوع "المنهج التربوي للمحظرة الموريتانية.. فضائله ونواقصه" وها أنا أستعين بالله وأشرع في الكتابة رغم كل المعوقات، آملا أن تنجح محاولتي هذه في إثارة الموضوع، والإلمام ببعض جوانبه، وإن لم تحطْ به كله. فما لا يُدرَك كلُّه لا يترَك جلُّه. وقد أخضعتُ هذا البحث للتصميم المنهجي التالي:
المقدمة
المبحث الأول: مدخل عام.
المطلب الأول: المنهج التربوي.
المطلب الثاني: تعريف المحظرة.
المطلب الثالث: المسيرة التاريخية للمحظرة.
المبحث الثاني: المنهج التربوي للمحظرة.
المطلب الأول: المقررات (البرنامج الدراسي).
المطلب الثاني: الأهداف والوسائل التعليمية.
المطلب الثالث: أساليب التدريس.
المطلب الرابع: التقويم.
المطلب الخامس: الفضائل والنواقص في المنهج التربوي للمحظرة
الخاتمة.
وبالله التوفيق ومنه السداد.

المبحث الأول: مدخل عام
المطلب الأول: المنهج التربوي
تعريف المنهج:
المنهج (بفتح الميم وكسرها) والمنهاج لغة: الطريق الواضح([1]).
وفي الاصطلاح التربوي هو: "مجموع الخبرات والمهارات وأوجه النشاط التي توفرها المدرسة لتلاميذها، لتحقق لهم أقصى درجة ممكنة من النمو المتكامل، وتحقق للمجتمع كامل أهدافه من التربية والتعليم.."([2]).
وقد تطور مفهوم المنهج وصار يشمل: الأهداف، والمقررات الدراسية، وأساليب التدريس، والوسائل التعليمية، والتقويم([3]).
أهمية المنهج:
سئل أحد السياسيين عن مستقبل أمة، فقال: ضعوا أمامي مناهجها أنبئكم بمستقبلها.
يعد المنهج لب التربية، وهو الوسيلة التي تصل بها الأمة إلى ما تبتغيه من أهداف، وهو –بإجماع المربين- الأساس الذي يرتكز عليه بناء التربية، فبقوته يرسخ البناء ويقوى، وبضعفه ينهار البناء([4]).
المطلب الثاني: تعريف المحظرة
الأصل اللغوي:
يتفق الباحثون على أن لفظ المحظرة مشتق: إما من الاحتظار، أو من الحضور والمحاضرة؛ فهي اسم لمجموعة من الحظائر يحيط بها الحي مساكنهم وأنعامهم، أو هي من الحضور والمحاضرة، "فقد كان الطلبة يأتون من كل حدب وصوب إلى شيوخ العلم لحضور دروسهم ومحاضراتهم"([5]). ويميل الأستاذ الخليل النحوي إلى ترجيح المعنى الأخير مستندا على بعض المسوغات([6]).
التعريف الاصطلاحي:
المحظرة في الاصطلاح المحلي: "مؤسسة دراسية تقليدية جامعة لشتات المعارف قد تتسع دلالتها لتشمل كتاتيب القرآن، ولكنها تنصرف غالبا في الاصطلاح إلى المدارس التي يتلقى فيها الطلبة مختلف المعارف الأخرى تدرجا من المستوى الابتدائي وصولا إلى المستوى الجامعي"([7]). أو هي باختصار: "جامعة شعبية بدوية متنقلة تلقينية فردية التعليم طوعية الممارسة"([8]). وهذا التعريف من أكثر التعريفات دقة وشمولا؛ لاحتوائه على أهم سمات المحظرة وخصائصها.
المطلب الثالث: المسيرة التاريخية للمحظرة
إن المتتبع لتاريخ المحظرة الموريتانية يلاحظ أنها مرت بثلاثة أطوار:
1- طور التأسيس والانتشار: ويبدأ بمقدم الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي (ت 451هـ) إلى البلاد، حين أسس رباطا يعد النواة الأولى للمحاظر باتفاق المؤرخين.
ويرجع بعض الباحثين بدايات المحظرة إلى الفتح الإسلامي في القرن الثاني الهجري، إلا أن هذه البدايات كانت مقتصرة على كتاتيب القرآن ولم تتجاوزها([9]).
وبعد استشهاد ابن ياسين تولى مهمة التدريس العالمان: الإمام الحضرمي (ت489هـ)، والإمام إبراهيم الأموي (ت500هـ). وانتشر التعليم المحظري في المدن والحواضر حتى نهاية القرن العاشر الهجري، وخصوصا في المدن التاريخية الأربع: شنقيط، ووادان، وتيشيت، وولَاتة.
2- طور التنوع والازدهار: وبدأ بانتقال المحاظر إلى البادية وازدهارها فيها بعد تراجع العطاء العلمي للمدن التاريخية بسبب الحروب الأهلية. وتتابع هذه الازدهار منذ القرن الحادي عشر الهجري في البادية، وهي ظاهرة جديرة بالتأمل، يقول الدكتور أحمد بن حبيب الله: "إذا كان العلم صنعةً لا يمكن أن تزدهر إلا في المدن والحواضر كالصناعات عامة حسب نظرية ابن خلدون الذي يقول: (إن التعليم إنما يَكثُرُ حيث يكثرُ العمران وتعظمُ الحضارة؛ وذلك لأنه صناعة) فإن الواقع الشنقيطي القديم والحديث قد قلب الأطروحة الخلدونية رأسًا على عقب"([10]).
ويمثل هذا الطور العصر الذهبي للمحظرة طَوال مسيرتها التاريخية حيث بلغت أوج ازدهارها في القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر الهجري.
3- طور التراجع والانحسار: بدأ هذا الطور مع دخول الاستعمار الذي بدأ بمضايقة المحاظر بإنشاء المدارس الحديثة، فتأثرت المحاظر بذلك بالرغم من مقاومة أهلها. ومع مطلع الاستقلال انتشرت المدارس الحكومية وانصرف إليها كثير من أبناء الشعب. ثم جاءت أزمة الجفاف والتصحر مع أوائل السبعينيات، فتأثرت المحاظر بها أكثر من غيرها بسبب تنامي هجرة سكان البادية إلى المدن بحثًا عن العمل والعيش، بعد تأثر اقتصادهم البدوي بموجة الجفاف آنذاك([11]).
غير أنه تأسستْ في العاصمة معاهد ومدارس يتبع بعضُها منهجًا توفيقيًّا بين وسائل العصر ومناهجه وروح المحظرة وبرامجها. ومنها: مدرسة العوْن، ومعاهد الفاروق، وابن عباس، وخالد، والمعاهد التابعة للتجمع الثقافي الإسلامي. كما أسست الدولة المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية. وهناك اهتمام متجدد بإحياء زوايا ثقافية تراثية منها على سبيل المثال: زاوية الشيخ سيدي المختار الكنتي، وزاوية الشيخ محمد المامي، وغيرهما.

المبحث الثاني: المنهج التربوي للمحظرة
المطلب الأول: المقررات (البرنامج الدراسي)
معارف المحظرة وترتيبها:
يصنف العلامة المختار ولد حامد (ت 1414هـ) معارفَ المحظرة مرتبةً وفق ما يلي([12]):
- الدرجة الأولى: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والتصوف، والسيرة، والغزوات، وفتوحات الصحابة وأنسابهم.
- الدرجة الثانية: اللغة، والنحو، وعلم البلاغة، والعروض، وأنساب العرب وأيامهم.
- الدرجة الثالثة: المنطق، والتاريخ، والجغرافية، والحساب، والفلك، والهندسة.
وتختلف المحاظر في ترتيب المعارف حسب الجهات؛ فبعض المحاظر في "الگبله" تبدأ بالفنون اللغوية،  ثم العقائد، ثم الفقه. أما محاظر شرق البلاد ووسطها فتبدأ بالفقه أولا (الأخضري، ثم ابن عاشر، ثم الرسالة، ثم مختصر خليل). ويقول محمد مبارك اللمتوني (ت 1290هـ) مبينا رأيَه في ترتيب المنهج([13]):
وقَدِّمِ الأهمَّ إنَّ العلمَ جمّْ
والعلمُ طيفٌ زارَ أو ضيفٌ أَلَـمّْ
أهمُّه عقائدٌ ثمَّ فروعْ
تصوفٌ وآلةٌ بها الشروعْ
بيد أن مناهج الدراسة تتركز في ثلاثة فنون رئيسة لا تخلو منها محظرة، وهي: الفقه، واللغة، والنحو. وقد تزيد عليها بعض المحاظر فنونا أخرى كالتفسير والحديث والسيرة. وأشهر الكتب المتداوَلة في الفقه مختصر خليل، وهو المعتمد عليه في الفقه والفتيا، يليه في الأهمية ألفية ابن مالك في النحو، وفي اللغة تأتي المعلقات والدواوين الشعرية (حسان بن ثابت، وغيلان ذو الرمة..) في المقدمة.
التخصص في المحاظر:
رغم غلبة الطابع الموسوعي للمحظرة الموريتانية فقد اشتهرت بعض المحاظر بالتخصص في بعض الفنون؛ فمحظرة "الكَحله" (في آفطوط) متخصصة في العلوم الشرعية فقط. أما ربيبتها "الصَّفره" فهي متخصصة في العلوم اللغوية فقط. وكانت محاظر الشرق (في "لِعصابَه" والحوضيْن) تعتني بالقرآن وعلومه مع دراسة العلوم الشرعية، وفي محاضر "الگِبله" (في جنوب غرب البلاد) كانت دراسة مختصر خليل والألفية على حد سواء في الأهمية. واشتهرت بعض من محاضر "الگِبله" بالدراسات النحوية واللغوية مثل محظرة محمد بن حنبل الحسني (ت 1303هـ)، ومحظرة يحظيه بن عبد الودود القناني (ت1359هـ)، ومحظرة اجدود بن اكتوشن العلوي (ت 1289ه). وكذلك اشتهرت محظرة أهل محمد سالم المجلسي باختصاصها في الفقه واللغة والتفسير والحديث في زمن مؤسسها المذكور([14]).
وسنأخذ نموذجين للاستدلال على المنهج الدراسي للمحظرة يمثلان منطقتي "الگِبله" وشرق البلاد. أولهما: محظرة يحظيه بن عبد الودود (ت1359هـ)، والآخر: المعارف والفنون التي درسها والد الشيخ سيدي المختار الكنتي (ت 1226هـ).
في النموذج الأول، يتحدث الأستاذ الباحث محمذن ولد المحبوب في مقال له عن محظرة يحظيه بن عبد الودود (ت1359هـ)، مشبها إياها بجامعة لها كليتان تحويان خمس شعب دراسية([15])، ويمكن تصنيفها حسب ما يلي:
1- كلية الشريعة الإسلامية:
-        شعبة العقيدة والتوحيد: وتُدرَّس فيها إضاءةُ الدجنة، والوسيلةُ لابن بونه، والعقائد السنوسية..
-        شعبة الفقه وفروعه: وتُدرَّس فيها الرسالةُ للقيرواني، ومختصر خليل مع شروحه.
2- كلية الآداب والعلوم الإنسانية:
-        شعبة النحو واللسانيات والصرف: وتُدرَّس ألفية ابن مالك مع توشيح ابن بونا عليها، ولاميةُ الأفعال لابن مالك مع توشيح الحسن بن زين القناني (ت 1315هـ).
-        شعبة اللغة والأدب: وتُدرَّس فيها دواوينُ الشعراء الستة الجاهليين للأعلم الشنتمري، وديوانُ غيلان، والكاملُ للمبرد، وأشعارُ العباسيين..
-        شعبة التاريخ والسير والجغرافية: ويُدرَّس فيها نظمُ الغزوات للبدوي، وعمودُ النسب له أيضا، وقرةُ الأبصار للمطي..
أما النموذج الثاني الذي يمثل المنطقة الشرقية، فيذكر الشيخ سيدي المختار الكنتي (ت 1226هـ) في كتابه "الطرائف والتلائد" الفنون التي درسها والده معدِّدًا إيَّاها: (مختصر خليل، نظم الغزوات، الرسالة، حدود ابن عرفة في الفقه، ألفية ابن مالك، الفريدة للسيوطي في النحو، ألفية السيوطي (عقود الجمان) في البلاغة، المنجور على قواعد الزقاق في القواعد، وورقات الجويني، وجمع الجوامع في الأصول، والصحاح الستة في الحديث، وتفسير ابن عطية)([16]).
المطلب الثاني: الأهداف والوسائل التعليمية
الأهداف:
المحظرة ليست مجرد مدرسة جامعة تلقن المعارف فحسب، بل هي مدرسة للحياة، تُعنى بتكوين الطالب جسميا وعقليا ونفسيا تكوينا متكاملا. فهي تعد الشباب الغض لمواجهة الحياة الخشنة في البادية والصحراء، حتى إذا خرج منها عاد إلى أهله جاهزا لمواجهة أعباء الحياة([17]).
والطالب عادة يتوجه إلى المحظرة ولا هم له إلا التعلم والتفقه في الدين، وليس الشهرة أو المنصب أو المتعة المادية.
الوسائل:
ويقصد بها كل ما يستعان به لتيسير عملية التعلم على الطالب([18]). والوسائل في التعليم المحظري تقتصر على أدوات الكتابة والتعلم. وهي:
- اللوح، ويصنع من الخشب المحلي، وتكتب عليه الدروس، ويفضلونه على الورق في التعلم. وقد ارتبط اللوح بالمحظرة ارتباطا وثيقا، وكان له نصيب من الأدب المحظري. يقول الشيخ محمد بن حنبل (ت1303هـ/1885م) في اللوح([19]):
عِمْ صباحًا، أفلحتَ كلَّ فَلاحِ
فيكَ يا لوحُ لمْ أطعْ ألفَ لاحِ
أنتَ -يا لوحُ- صاحبِي وأنيسِي
وشِفائِي مِن غُلَّتي ولُوَاحِي
فانتصاحُ امرِئٍ يَرُومُ اعتياضِي
طلبَ الوَفْرِ منكَ شرُّ انتصاحِ
بكَ لا بالثَّرا كَلِفتُ قديمًا
ومُحَيَّاكَ لا وُجوهِ الملاحِ
- القلم، ويصنع من أعواد الثمام أو الجريد، ويُبرَى ويُشقُّ رأسه لتسهيل انسياب الحبر منه. ويستعمل للكتابة على اللوح وعلى الورق أيضًا.
- الورق، وقد جاء متأخرًا، وهو يُستورَد من الخارج، ويستعمَل للاستنساخ والتدوين والتصنيف.
- الحبر، ويصنع من أخلاطٍ محلية، ويتوفر بألوان مختلفة منها: الأسود وهو أكثرها استعمالًا، والأحمر وأكثر ما يُستعمَل في التوشيح والتطرير، والأخضر وهو قليل الاستعمال.
- الكتاب، وكان نادرا وغاليَ الثمن، وقد دخلتِ الكتب إلى البلاد عن طريق الرحلات العلمية ورحلات الحج. واشتهرت بعض الأسر العلمية باقتناء الكتب، كذلك اشتهرتْ مدنٌ مثل شنقيط وولاته بكثرة مكتباتِها([20]).
المطلب الثالث: أساليب التدريس
الزمن:
يبدأ وقت الدراسة من الصباح حتى الليل في أغلب الأحيان، تبعا لكثرة الطلاب وازدحام المحظرة بهم. وتختلف طريقة التدريس من محظرة إلى أخرى، والغالب أن يتبع الشيخ إحدى ثلاث طرائق:
1- تقسيم ساعات النهار على المواد الدراسية حسب أهميتها.
2- التدريس الجماعي أو الزُّمْريِّ: ويدعى محليا بـ"الدولة"، وهو عبارة عن مجموعة من الطلاب يشتركون في وحدة الفن والنص.
3- استقبال الطلاب حسب الأسبقية في المجيء (نظام الأول فالذي يليه).
كيفية التدريس:
لا توجد كيفية معينة تضبط الهيئة التي يُدَرِّسُ عليها الشيخ. فالشيخ كما يقول أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت 1331هـ) في الوسيط: "يُدرِّس مرةً ماشيًا مسرعًا، ومرةً جالسًا في بيته، ومرةً في المسجد، وفيهم مَن يُدرِّسُ في أثناء الارتحالِ.."([21]).
خطوات تحصيل الدرس:
يتبع الطالب في دراسته تسلسلًا معيَّنا: فهو يكتب النص على اللوح الخشبي، ثم يقرأه على "المرابط" للإجازة، ثم يُقبِل على قراءة النص بالتَّكرار حتى يحفظَه، ثم يقرأه على "المرابط" غيبًا واستظهارًا من ذاكرته، ثم يعود لقراءته مجزأً (جملةً جملةً أو بيتًا أو بيتًا، حسبَ نوعِ الفنِّ) والشيخ يتولى الشرحَ في أثناء ذلك. ولا يَبقى بعدَ هذه المراحل إلا التَّكرارُ لترسيخ المعلومات في الذهن([22]).
وقد جمع هذه الخطوات العلامة محمذن فال بن متالي التندغي (ت 1286هـ)، فقال:
كَتْبٌ إجازةٌ وحفظُ الرسمِ
قراءةٌ تدريسٌ اخذُ العلمِ
ومن يُقدمْ رتبةً على المحلّْ
مِنْ ذِي المراتبِ المرامَ لم يَنَلْ
المطلب الرابع: التقويم
يختلف نظام التقويم في المحظرة عنه في المدارس والجامعات الحديثة. ومع ذلك فالتقويم عملية مستمرة في رحاب المحظرة، وتؤدي إلى نتائجها بكفاءة. ويتخذ هذا التقويم نمطين([23]) هما:
1- التقويم التكويني: وهو التقويم المستمر السائد في المحظرة، ومن أشكاله:
- التقويم الذاتي الزمري: وهو ظاهرة تنفرد بها المحاظر، وتأخذ شكل أحاجيَّ وألغاز ومساجلات وتمرينات يختبر بها الطلاب بعضهم بعضا، ويطَّلع الشيخ عادةً على سير هذا التقويم للاستفادة منه في رصد مستويات الطلبة.
- اختبار القافلة: وهو أن يتعرض الطلاب للقوافل، ويطلبوا من علمائها اختبار مستوياتهم العلمية، فيمتحنهم هؤلاء، فإن نجحوا استحقوا عليهم مكافأة.
2- التقويم النهائي: وهو لا يتخذ شكل امتحان أو اختبار، وإنما يبني الشيخ تقويمه النهائي للطالب على أدائه في سلسلة الاختبارات التكوينية التي خاضها في أثناء دراسته، ويجسد الشيخ قراره بمنح الإجازة بناء على هذا التقويم. والإجازة نوعان:
-        إجازة مقيدة: وتختص بفن واحد كالمقرإ، أو النحو، أو الحديث. ويلزم فيها إثبات سلسلة رجال السند الذين أخذ عنهم.
-        إجازة مطلقة: ولا تمنح إلا لأفراد قليلين من النابهين الذين استكملوا جميع العلوم المدروسة في المحظرة، وأخذوا كل ما عند الشيخ، وعادة ما يؤسس هؤلاء محاظر جديدة في أحيائهم.
المطلب الخامس: الفضائل والنواقص في المنهج التربوي للمحظرة
الفضائل:
يلتقي المنهج التربوي للمحظرة في بعض مبادئه مع قواعد التربية الحديثة، ويمتاز عنها بما يلي:
- الحرية: طلاب المحظرة أحرارٌ في اختيار الفن المدروس، والمنهج، والمدة التي يقضونها، بل في المعلم (إن كان في المحظرة أكثر من شيخ).
- المساواة: يحق لكل شخص الالتحاق بالمحظرة، بعض النظر عن عمره أو بيئته الاجتماعية. والطلاب سواسية، فمعيار التميز عندهم هو التفوق المعرفي فقط.
- المجَّانية: المحظرة لا تأخذ رسومًا من طلابها، فالطالب الموسر ينفق على نفسه، أما المعسرُ فينفق عليه الشيخ أو زملاؤه أو أهل الحي([24]).
- الموسوعية: فالمحظرة جامعة موسوعية يتلقى فيها الطالب المعارف والفنون المختلفة.
أما المبادئ التي تضبط التدريسَ([25])، فأهمها:
- التدرج: وهو الالتزام بالتسلسل الطبيعي في دراسة المتون، فيبدأون بالمتون السهلة، وينتقلون إلى المتون الصعبة؛ ففي الفقه: الأخضري، ثم ابن عاشر، ثم الرسالة، ثم المختصر. وفي النحو: الآجرومية، فنظم عبيد ربه، فالألفية. وعكسه التنكيس الذي نهى عنه أحدهم قائلا:
علامةُ الجهلِ بهذا الجيلِ
تركُ الرسالةِ إلى خليلِ
وتركُ الَاخضرِيْ إلى ابنِ عاشرِ
وتركَ ذيْنِ للرسالةِ احذرِ
- وحدة المتن واستيفاؤه: فيحظر على الطالب الاشتغال بأكثر من فن في آن واحد. قال أحدهم:
وإنْ تُردْ تَكميلَ فنٍّ تَممَهْ
وعنْ سواه قبلَ الانتهاءِ مَهْ
- تقليل الحصة الدراسية لتمكين الطالب من الاستيعاب، ومثاله تقسيم المختصر إلى "أقفاف" أي حصص صغيرة معروفة.
- إعادة دراسة المتن بعد استيفائه أكثرَ من مرة؛ لتقوية الحفظ، وزيادة استيعاب المادة العلمية.
- اعتماد الطريقة التلقينية في توصيل المعلومات، عملًا بالمقُولة المأثورة: "العلمُ يُؤخَذ من أفواه الرجال لا مِن بطون الكتب".
النواقص:
لا يخلو نظام بشري من بعض النواقص، ومن ذلك النظام المحظري. وأغلب النواقص فيه ناجمة عن مؤثرات خارجة عن المحظرة، كالبداوة، وضَعف الوسائل، وقساوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية. ومن النواقص ما يتعلق بالمحتوَيات، ومنها ما يتعلق بالتدريس. وأهمها:
-        إهمال الدراسات المتعلقة بالتفسير والحديث، لغلبة تقليد المذهب المالكي والاستدلال بفروعه من خلال نصوص خليل. أما قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف فكانت غالبًا للتبرك لا للاستنباط والتدليل.
-        الاقتصار في الفقه على دراسة المذهب المالكي وإهمال المذاهب الأخرى. ولعل ذلك يعود إلى انتشار المذهب المالكي وسيادته المطلقة دون غيره من المذاهب.
-        غياب المواد العلمية والرياضية في برنامج المحظرة الدراسي، لعدم الحاجة إليها في المجتمع البدوي. ويعلل الأستاذ محمد المختار بن اباه ذلك بقوله: "وطبيعة البلاد تفسر هذه الظاهرة، فحياة البادية لا تحتاج إلى صناعة وهندسة، ويكفيها من الحساب ما يُستعان به في قسمة الفرائض على أهل السهام"([26]).
-        الإكثار من الاستطراد في الشرح؛ وهو غالبًا ما ينقل الطالب من فنه إلى متاهات الفنون الأخرى.
-        حشو ذهن الطالب بالمعلومات؛ وقد يؤدي ذلك إلى تشتتٍ في ذهنه، وضعفٍ في استيعابه للمادة العلمية.
هذه هي أهم النواقص الشائعة مع وجود استثناءات في بعض المحاظر. ويُلحَظ قلةُ النواقص بالنسبة إلى المزايا والفضائل. وقديما قيل: "كفى المرءَ نُبْلًا أن تُعدَّ معايبُه".

الخاتمة:
لقد كانت المحظرة عبر تاريخها منارة للمعرفة ومعقلا للإسلام في غرب إفريقيا؛ فانتشر إشعاعها الديني والمعرفي في المنطقة، وأنجبت أعلاما كان لهم حضور علمي كبير في خارج البلاد، حتى قال طه حسين في وصف أحد مخرجات هذه المحظرة، وهو العلامة محمد محمود بن التلاميد التركزي (ت 1322هـ): "كان أولئك الطلبة يتحدثون أنهم لم يروا ضريبًا للشيخ الشنقيطي في حفظه للغة ورواية الحديث سندًا ومتنًا عن ظهر قلب"([27]). والفضل في ذلك بعد الله يعود إلى المنهج التربوي للمحظرة الموريتانية، وهو المنهج الذي يتسم بالمرونة والتكامل والتنوع والثراء شكلا ومضمونا.
"وقد أُعجبَ الناس (في الخارج) بهذه المؤسسة ومنهجها الفريد من خلال العلماء الذي التقوا بهم أو عرفوهم؛ فالشيخ عبد الرحمن بن بلال لما استدعته جامعة اليمن طلبوا منه إنشاء محظرة هناك. وفي أمريكا أسس تلامذة العلامة الشيخ الحاج بن فحفو الشنقيطي – وهم أمريكيون- محظرةً في كاليفورنيا باسم (الزيتونة) يديرها الشيخ حمزة يوسف، وتُدرَّسُ فيها المتونُ والشروحُ على الطريقة الموريتانية"([28]).
وكل ذلك يدل على كفاءة هذا المنهج ونجاحه حتى على الصعيد الخارجي. وما أحرانا أن نستفيد من المزايا التي يتحلى بها المنهج المحظري في إغناء نظامنا التعليمي الحديث المتعثِّر والنهوضِ به، سواءٌ من حيث الشكلُ أمْ من حيث المضمونُ.

فهرس المصادر والمراجع
1-      محمد الحافظ ولد المجتبى: الحديث علومه وعلماؤه في بلاد شنقيط، مطبعة الأطلس، انواكشوط، 2001م.
2-      الخليل النحوي: بلاد شنقيط.. المنارة والرباط، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1987م.
3-      أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1999م.
4-      محمد المختار بن اباه، الشعر والشعراء في موريتانيا، الشركة التونسية للتوزيع، 1987م.
5-      د. عبد الله بن بيه، محاضرة بعنوان: (المحاظر ومكانتها التاريخية والمستقبل المطلوب)، أبحاث الملتقى الدولي لتراث موريتانيا، انواكشوط، 1999م.
6-      د. أحمد بن حبيب الله، مقال (تطور النظام التربوي في المحاظر)، مجلة الموكب، العدد: 12، أغشت 1997م.
7-      لجنة من الأساتذة، (دراسة حول الحديث وعلومه في موريتانيا)، مجلة الشعاع، العدد: 8، ذو الحجة 1412هـ.
8-      محمد ولد محمد مختار، (نظم التقويم في المؤسسات التقليدية)، مجلة التعليم، العدد: 28، السنة: 1418هـ.
9-      د. صالح عبد الله، التربية وطرق التدريس، دار المعارف بمصر، 1961م.
10-  د. أبو الفتوح رضوان، علم التربية: المناهج وطرق التدريس، وزارة المعارف، السعودية، 1979م.
11-  بطرس البستاني، محيط المحيط، مكتبة لبنان، 1987م.
12-  محمذن بن المحبوبي، مقال (الخطاب التربوي في المحظرة)، مجلة الموكب، العدد: 12، أغشت 1987م.
13-  محمد ولد يحيى ولد الدو، محظرة يحظيه ولد عبد الودود، مذكرة تخرج من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة والمفتشين، 1984-1985م. 

  ([1])بطرس البستاني، محيط المحيط (ص 912)، مكتبة لبنان 1987م.
([2])  د. أبو الفتوح رضوان، علم التربية: المناهج وطرق التدريس (ص 12)، وزارة المعارف السعودية، 1979م.
  ([3])المصدر السابق نفسه (ص 17).
([4])  د. صالح عبد الله، التربية وطرق التدريس (2/193)، دار المعارف بمصر 1961م.
([5])  الخليل النحوي: بلاد شنقيط.. المنارة والرباط (ص61)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1987م.
  ([6])المصدر السابق نفسه (ص 53).
  ([7])المصدر السابق نفسه (ص 190).
 ([8])المصدر السابق نفسه (ص 53).
  ([9])محمد الحافظ ولد المجتبى: الحديث علومه وعلماؤه في بلاد شنقيط (ص 27)، مطبعة الأطلس، انواكشوط، 2001م.
  ([10])د. أحمد بن حبيب الله، مجلة التعليم (ص 37)، العدد: 13، 2000م. مقال (تطور النظام التربوي في المحاظر).
([11])  ينظر: محمد الحافظ ولد المجتبى، مصدر سابق (ص 514)، باختصار.  
([12])  محمد ولد يحيى ولد الدو، محظرة يحظيه ولد عبد الودود (ص 20)، مذكرة تخرج، المدرسة العليا لتكوين الأساتذة والمفتشين، 1984-1985م.
([13])  الخليل النحوي، مصدر سابق (ص 195).
  ([14])محمد الحافظ ولد المجتبى، مصدر سابق (ص 44).
  ([15])محمذن بن المحبوب، مجلة الموكب (ص 9-10)، العدد: 12، أغشت 1987م. مقال (الخطاب التربوي في المحظرة).
([16])  الخليل النحوي، مصدر سابق (ص ).
  ([17])الخليل النحوي، مصدر سابق (ص 136).
([18])  د. أبو الفتوح رضوان، مصدر سابق (ص 131).
([19]) أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط (ص 317)، مكتبة الخانجي، القاهرة 1991م.
  ([20])ينظر: الخليل النحوي، مصدر سابق (ص 147-155) باختصار.
([21])  أحمد بن الأمين الشنقيطي، مصدر سابق (ص 519).
([22])  ينظر: الخليل النحوي، مصدر سابق (ص 174).
  ([23])ينظر: محمد ولد محمد مختار، مجلة التعليم (42-45)، العدد: 28، السنة: 1418هـ، مقال (نظم التقويم في المؤسسات التقليدية)، بتصرف.
  ([24])د. عبد الله بن بيه، محاضرة بعنوان: (المحاظر ومكانتها التاريخية والمستقبل المطلوب)، أبحاث الملتقى الدولي لتراث موريتانيا (ص )، انواكشوط، 1999م.
  ([25])ينظر: الخليل النحوي، مصدر سابق (ص 269).
([26])  محمد المختار بن اباه، الشعر والشعراء في موريتانيا (ص 27)، الشركة التونسية للتوزيع، 1987م.
([27])  الخليل النحوي، مصدر سابق (ص 269).
 ([28]) د. عبد الله بن بيه، مصدر سابق (27).
كتبها أحمد سالم ابن مقام في 6:22 م 
 

اقرأ أيضا