رواية (أعشقُني) للكاتبة الأردنية سناء الشعلان (الفصل الثالث)

خميس, 2017-03-16 01:09

(البُعد الثالث: الارتفاع؛ جسدها الصّغير النّحيل

هو أقرب مسافة لنفسي نحو الألم)

هذا هو الحمل.قال كبير الأطبّاء المعالجين له بتوتّرٍ بادٍ، وحرج مشوب بغموض لا يفهمه، اقترب باسل المُهريّ برأسه الأنثويّ الجميل قيد أُنملة من الطّبيب، وسأله بصبر نافد، وتكرار آليّ مذعور: هل هو مرض خطير؟

ردّ الطّبيب بثقة أقلقت انتظاره المشوب بالاحتمالات كلّها:             هو ليس مرضاً بالمعنى الدّقيق، ولكنّه حالة جسديّة طارئة لها ظروفها وشروطها ومظاهرها.

     سأل باسل المُهريّ بصبر نافد:وهل يمكن الشّفاء من هذه الحالة الجسديّة الطّارئة؟

تنحنح الطّبيب دون حاجة منه إلى ذلك، وقال بعد أخذ نفسًٍ قصيرٍ مستدركٍ:هذه الحالة تحتاج إلى رعاية خاصة إلى حين انتهائها تلقائيّاً، وقد تحتاج إلى عملية في مرحلتها الأخيرة.

سأل باسل مشدوهاً رافضاً فكرة العمليات من جديد، وكمّ عملاق من السّخط يملأ روحه: سأحتاج إلى عملية مرة أخرى؟! وما طبيعة هذه العمليّة؟ هل سأواجه من جديد التّغيير والتّبديل، لعلّكم في هذه المرة ستزرعون دماغي المجنون الذي وافقكم على هذه المهزلة الكبرى في جسد رجل آليّ، أو كائن فضائيّ مجنون، أو حيوان أرضيّ منقرض، إن كان الأمر كذلك، فأرغب بقوة في أن تزرعوا دماغي في جسد ذلك الحيوان المنقرض الذي اسمه الحمار، فأنا وفق أوصافه التي درسناها في مادة الأحياء المنقرضة والمتحوّرة أشبهه في غبائي وانقيادي لكم دون أدنى تفكير أو تروٍ أو تمهل أو حكمة.

تدخّل الطّبيب المساعد الآليّ بملامحه المعدنيّة الباردة، وقال له بنبرته الرّتيبة المتقطّعة الملفوظة بوتيرة واحدة تخلو من أيّ إحساس أو مشاعر أو انطباع شخصيّ: لن نفعل أيّاً من الأمور التي تقولها يا سيد باسل المُهريّ، وفق التّقارير التي بين أيدينا، فجسدك بالكاد يتقبّل دماغه الجديد، وأمامنا الكثير من التّحديات والعلاجات الخاصة لتكييف جسدك مع دماغه الجديد، وهي تعقيدات يطول الكلام عنها، كما يطول شرحها، ولكن يكفي القول إنّك في حاجة إلى علاجات جديدة وطويلة حتى تستعيد بعض قدراتك الجسديّة مثل الحركة والنّمو والعمليات البيولوجيّة الطبّيعيّة كالتّبوّل والتّبرّز والتّعرّق والكثير الكثير من التعّقيدات، حتى في حالة شفائك التّام ونجاح عمليتك مئة بالمئة، فلن نستطيع أن نعيد الكرّة من جديد؛ لنقل دماغك إلى جسد ذكوريّ مُنتقى قبل عامين على أقّل تقدير.

تدخّل مندوب المجلس القضائيّ الكونيّ الأعلى، وقال وقد وجد فرصته أخيراً للحديث: أيّها السّادة لن يكون ذلك أبداً إلاّ بعد أخذ إذنٍ خاصٍ ورسميّ من المجلس، فالإذن الخاص العاجل والاستثنائيّ الذي حصلت عليه المخابرات المركزية للمجرّة بضغط خاص من جهات عسكريّة عليا من أجل إجراء عملية نقل دماغ عاجلة قد انتهتْ فعاليته، والآن بات من الواجب أن تخضع أيّ عمليّة تجريبيّة على بشر أو على أيّ حيوانات مستأنسة مستنسخة أو مهجّنة إلى رخصة خاصة وإذنٍ مفصّل، وبخلاف ذلك ستجدون أنفسكم جميعاً في ورطة عملاقة قد تصل بكم إلى حدّ السّجن والغرامات الكبيرة والنّفي المؤقّت أو الدّائم خارج الكوكب، ولا أظنّ أنّ أيّ أحد منكم يرغب في أن تتأزّم أوضاعه بهذا الشّكل الرّهيب.

حاول كبير الأطبّاء أن يردّ على ملاحظة المندوب، ولكنّ المساعد الآليّ سبقه بالقول: نحن الآن لسنا في صدد إجراء أيّ عمليات نقل دماغ جديدة، فلا يزال السيّد باسل المُهريّ في حاجة - كم ذكرت آنفاً - إلى مراحل طويلة من العلاج والمراقبة والتّهيئة الجّسديّة والفيزيائيّة والنّفسيّة، ونحن لن نخاطر بحياته، أو بنجاح عمليته بأيّ شكل من الأشكال.

قرع المندوب الطّاولة بحركة انسيابيّة من أصابع يده اليمنى، وقال برضا: إذن نحن متّفقون، هذه هي الأوراق الرّسميّة التي عليكم أن تملؤهـا الآن مـن أجـل أن أكـون همزة الوصل القانونيّة بينكم وبين الحكومة والمجلس القضائيّ الكونيّ الأعلى، وهذا هو رقم قمري الصّناعيّ الخاص من أجل الاتّصال المرئي المباشر بي، أو من أجل تسجيل مكالمات في حالة غيابي.

انحنت الممرضة المرافقة له على يد الطّبيب بسرعة، وتناولت البطاقة من أجل حفظ معلوماتها في الملفّ الإلكترونيّ  للعملّية ، وساد صمت متأرجح نزق في الغرفة، قطعه صوت باسل المترع بسخط محموم قائلاً: إذن سأبقى محبوساً في هذا الجسد اللّعين لسنوات بقرارٍ من الحكومة والقضاء والمخابرات؟

ليس بالضّبط.ردّ مندوب المجلس القضائيّ الكونيّ الأعلى.
هي مسألة وقت لا أكثر. أضاف كبير الأطبّاء.
وأين كانت الحكومة والمجلس القضائي الكوني الأعلى والمخابرات عندما كنتُ أحارب وأقاتل من أجل أمن المجرة وسلطتها واحترامها؟ أين كانوا جميعاً وأنا أفقد جسدي جزءاً جزءاً، وأندسّ مجبراً في جسد امرأة لا أعرفها، لأصبح في مهزلة كبرى اسمها السّيدة باسل المُهريّ؟ أين أنتم جميعاً وأنا وحيد وضعيف وتائه في هذه المعركة العجيبة مع جسدي الذي ليس جسدي؟
نحن جميعاً معكَ.قالت الممرضة بتعاطف بارد مدروس، يشبه ترديد إرشادات طبيّة، في حين تمايلت الكثير من الرّؤوس إلى الأمام ثم اتّجهت نحو الذّقون مصادقة بإيماءاتها على المساندة والمؤازرة له.
أنا وحدي في هذه التّجربة، نعم أنا وحدي، ليس معي أيّ عون أو قوة، وحده هذا الجسد الغريب الصّغير هو رفيقي في هذه التّجربة القاسية. تمتم باسل وهو يشعر بنحيب محموم يهدّ جريان دمه.
ولذلك ستكون أنتَ وحدكَ من سيقرّر إن كانتْ هذه العمليّة ستتكرّر مع غيرك من البشر بعد نجاحها معكَ إن أوصيتَ بذلك؟ أم أنّك ستضع حدّاً لها بالإيقاف الجبريّ الدّائم، والإلغاء النّهائيّ لها في حين تثبّتَ من أنّها طريقة إنقاذ بشعة وغير مجدية، والموت خير منها.قال كبير الأطبّاء بحماس حقيقي وحزم بادٍ.
ومن يعلم قد نستطيع حتى ذلك الوقت أنّ نحلّ معضلة الموت، وننهيه من قاموس البشريّة والوجود تماماً، نحن أحرزنا تقدّماً كبيراً في هذا الشّأن، قبل أسابيع فقط استطعنا أنّ نردّ الحياة لكائن تجارب لمدة ساعة من الزّمن بعد موته بساعتين، صدّقني يا سيد باسل سيأتي اليوم الذي يصبح فيه الموت مجرد حدث منقرض لا وجود له، وعندها ستنتهي الآلام والأحزان والمكابدات المتعلّقة به، سيعرف البشر والآليّون معنى الخلود الدّائم والحياة السّرمديّة التي لا تعرف نهاية، سيتاح لنا حينها أن نعمر الكثير من الكواكب بعدد سكاننا الكبير، وسيعرف الكون حضارة بشريّة عملاقة لم تخطر يوماً في خيال حالم،  القادم الأجمل آتٍ، صدّقنا القادم هو الأجمل، ولذلك عليكَ أن تتعاون معنا،وأن تساعد نفسك بالقدر الذي تستطيعه، أنتَ لستَ وحيداً، البشريّة جمعاء تتطلّع إليكَ بتقدير ودعم، اخرج إلى الشّارع، وواجه جموع المحتشدين الغفيرة التي تحاصر المستشفى ليل نهار مقدّمة لكَ الدّعم كلّه، وهي فخورة بموقفك وتجربتك الاستثنائيّة. بصراحة عليكَ أن تكون ممتناً وفخوراً بهذه الفرصة الوحيدة والفريدة من نوعها في تاريخ البشريّة التي تتاح لك دون غيرك، وتعد بتسجيل اسمكَ في أسفار الخالدين والأبطال.قال الطّبيب المساعد الآليّ.

تحمّس مندوب المجلس القضائيّ الكونيّ الأعلى، وهو يسمع هذا الكلام، وقال وهو يمدّ يده إلى باسل بوثيقة إلكترونيّة ممغنطة ومصورّة ومضغوطة: نعم أنت بطل كونيّ، جميعنا فخورون بكَ.

سأل باسل، وهو يطالع الوثيقة، فتقفز إلى عينيه صورتها، هاهي بشعرها الطّويل الأسود المخالف لنظام المجرة القاضي بقصّ الشّعر إلى ما قبل الكتفين، لابدّ أنّها كانت تدفع الكثير من الغرامات لقـاء الاحتفاظ بهذا الشّعر الأسود الطّويل المنسرح بتحدٍ والمندلـق على ظهرها وعلى كتفيها بجمال لم يعهد مثله، لأوّل مرّة يراها بنكهة الحياة، عيناها جميلتان غارقتان في خضرة نهريّة عجيبة، وتلك الابتسامة القرمزيّة الجميلة تعلو شفتيها هي ذات الابتسامة التي يحفظها من تلك الليّلة الرّهيبة.

أزاح نظره عن صورتها بعصبيّة نزقة مصنوعة بصعوبة، وسأل المندوب قائلاً: ما هذه؟

هذا أرشيفكَ الكونيّ الجديد، وهذه وثيقتكَ الرّسمية الجديدة، أنتَ منذ الآن باسل المُهريّ يُبعث من جديد في جسد آخر.

سأل بحزن مداهم لا يعرف له معنى: وماذا عنها؟

هي ماتتْ، وانتهى أمرها، وأُقفل ملفّها إلى الأبد، أنتَ وحدك الباقي الآن. أجاب المندوب بتقريريّة عالية تحمل نكهة الأمر الخفيّ.
أليس هذا الشّكل الأنثويّ متناقضاً مع اسمي وعملي وحياتي  بل وذاكرتي؟
الأمور كلّها ستحلّ في حينها، الحلول كلّها مؤقّتة الآن، وفيما بعد سوف نرتّب لكَ جسداً ذكوريّاً خاصّاً بكَ بشكل قانونيّ،  لا تقلق، الأمور كلّها تحت السّيطرة، وتسير لصالحكَ، ولصالحنا جميعاً، وحكومة المجرّة لا تنسى جنودها البررة الصّالحين.
وأنا؟
لم أفهم، عمّ تسأل بالضّبط؟

لم يجب باسل، وغرق في ضياع سحيق في روحه، كاد يمسّد بحركة لا إراديّة على مرضه الحمل، ولكنّه استدرك على نفسه في اللّحظة الأخيرة، فاكتفى بأن غرز ناظريه بتفرّس مشوب بالاستسلام في بطنه المنتفخ، وانزلق بغير تدريج إلى قدميه الصّغيرتين، كم هما صغيرتان ونحيلاتان وهما تشفّان عن عروق صغيرة متوارية تحت جلد رقيق ناعم.تساءل في نفسه: يا ترى كم هو مقاس حذائي الآن؟

من جديد كرّر المندوب سؤاله العالق في المكان، وقال: عفواً سيّد باسل، لم أفهم سؤالك بالضّبط، من واجبي أن أردّ على أيّ استفسار لك أيّاً كان.

ابتسم باسل بميكانيكيّة متقنة، واجتاحته رغبة ملعونة في أن يلكم المندوب ليكسّر له أسنانه اللامعة وفكه المستطيل، ليخلّصه من ذلك التقعّر الجميل المصنوع ببراعة في وسط ذقنه، لكنّه قدّر أنّ هذا الجسد الصّغير النّحيل بهذا المرض الحمل المتكوّر بخبث مستفزّ لن يهبه القوّة واللّكمة المناسبة، ولاسيما أنّه سجين في قامة قصيرة لا تبلغ طول قامة المندوب ولا تتسلّق في العلياء كما كان جسده الماضي الذي يبزّ الطّوال طولاً، والأقوياء شموخاً وامتداداً.

من جديد عاد مسوقاً إلى أسئلة لا يعرف لها ضرورة أو هدفاً            أو غاية، اتّسعت ابتسامته مساحة وسخطاً، وبحركة شبة انفعاليّة داعب شعره الممتدّ حتى أذنيه، فألفاه ناعماً أكثر مما يجب، ومنزلقاً دون رقبته بحنان دبق خجول، لابدّ من أنّهم حلقوا شَعْرها عندما كانت في المعتقل، ليلة قابلها جسداً مسجىً كانت بلا شعر، كانت صلعاء مقيتة السّحنة، لابدّ أنّهم عذّبوها بحرمانها حتى من شَعْرها الذي يبدو أنّها كانت تحبّه، وتقايضه بدفع غرامات كثيرة، لتبدو به امرأةً مختلفةً خارجةً بسلام على قوانين حكومة المجرّة التي تتكاثف جميعاً وبإصرار على توحيد الشّكل الخارجيّ للجميع من حيث الأوزان المسموح بها وطول الشّعر وموضات الملابس وتقنين حدود الاختلاف، فالإنسان الكونيّ المعاصر عامل منتظم وفق جدول إلكترونيّ مرسوم له منذ أن كان مجرد جينات مختارة بدقّة وفق منظومة كروموسومات في بويضة مخصّبة، ولذلك فلا مجال في هذا العالم الجديد للفرديّة المزعجة والذّاتيّة المغرقة في أسئلة تعطّل ركب العمل والإنجاز والانتظام والخطط الكونيّة القادمة، ومن يفكّر في الخروج عن هذا النسّق سيكون مصيره -بلا شكّ- مصيرها هي.

كرّر من جديد مداعبته لشعره الذي نما خلال غيبوبته الطّويلة، أحسّ بألفة جامحةٍ نحوه، أدار في المكان نظرة غير آبه بمن حوله، ضارباً صفحاً عن نظرات المندوب التي تطالبه بسؤال ولو كان مكروراً كي يهبه بسخاء إجابات مدروسة واجبة العمل بمقتضاها، تجاهله دون اكتراث، فهو يعلم أنّه لن يملك أن يجيبه عن سؤال: ماذا عنّي أنا؟ فالمجهول وحده يعلم ماذا عنه هو؟ أو عن بعضه.

تكاد الأمور تكون مختلطة تماماً في نفسه، فهو لا يعلم إن كان             هو هي، أم هي هو، أم كلاهما هما، أم كلاهما ليسا هما، يحتاج الأمر  إلى  طول تفكير وتدبّر وتنظيم ليعدّ سؤالاً يتقن اللّعب على ضميري  هو وهي، ويجيد التّفريق بينهما، فهو ما عاد قادراً على ذلك بأيّ   شكل من الأشكال.

يطالع باسل وجه كبير الأطبّاء، يكاد يتنزّى من بين شفتيه سؤال يقول: متى بالتّحديد سأشفى من مرض الحمل؟ لكنّه يمتصّ سؤاله بقلق لا يفهمه، وعزيمة غير قادرة على انتظار أيّ إجابات أو وعود، فيتلاشى السّؤال، وتضيع حروفه وأصواته، ويبتلعه من جديد، يشيح برأسه نحو الممرضة ذات الابتسامة الوظيفيّة المتقنة، ويقول لها بنبرة يخفق في أن تكون آمرة، بل تخلص بقوة للتّوسّل والتمنّي: أريد مرآة، أريد أن أرى كيف يبدو وجهي الجديد.

اقرأ أيضا