الحلم الذهبي في موريتانيا.. رحلة شاقة نحو ثراء محتمل

أربعاء, 2023-12-06 23:58
أنفاق المنقبين التقليديين

ـ أربعة أعوام من التقصي

ـ على حافة الآنفاق الخطيرة

ـ مساكن تحت الأرض ومساكين فوقها

ـ مناجم تتحول إلى أضرحة  للمنقبين

ـ كدح في يوم شاق  و ضربة حظ في مقتل

ـ في مطاحن الذهب يتنفسون  سم الزئبق الزعاق 

ـ أرقام تتحدث عن عائدات إيجابية على الاقتصاد الموريتاني 

 

تحقيق: المختار بابتاح الفغ زين

إنه الذهبُ أو العَسْجَدُ بلغة الشعراء الرومانسيين.. ذُكرتْ قناطيرُه المقنطرة في القرآن الكريم ضمن أنواع متاع الحياة الدنيا، تغنى به الشعراء واقعا وخيالا، قديما وحديثا، زفّت به العرائسُ في كل مناكب الأرض، فكان ذلك الأصفر الفاقع أغلى عملة منذ فجر التاريخ إلى اليوم وربما إلى نهاية الدنيا، ذلكم هو الذهب الخالص، أما كيف خرج ومن أين خرج؟ فتلك قصة طويلة حزينة تستحق الكتابة بدماء شهداء قضوا في تلك الصحاري القاحلة والسهول الجرداء وذرتهم الذّاريات بين تجاعيد الرمال دون وداع.

فليت شعري هل تعلم الغواني المتزيِنات بالحلي كم بذل الرجال من الأنفس والأموال والوقت كي يسعدوهن، وليت الملوك المتوجين بالذهب لم يعبثوا بهذه السلعة الغالية التي ربما أخذت قيمتها من تكلفة استخراجها!!

على حافة خنادق المنقبين

من أين أبدأ؟

صدِقوني .. لست أدري من أين أبدأ . وأنا الذي قضيت أربع سنوات أدور بين أبار التنقيب في أحراش "تيرس" و"إينشيري" شمالي موريتانيا أقلب فيها طرفي ذات اليمين وذات الشمال أتفحص حال المنقبين كل أشهر، ثم أعود إلى الإدارة الرسمية أجمع منها بعض المعلومات وكثيرا ما تتحفظ فأكون ضحية لأحادية المصادر الميدانية وغير الرسمية الى أن خرج هذا التحقيق الذي بدأت أولى رحلاته في نوفمبر 2019 وانتهى بعد أربع سنوات من التقصي. 

من تحت الصخور هنالك كنا ندون ونجمع المعلومات

لكن لستُ أدري من أين أبدأ هذا التحقيق الطويل، لقد تكاثرت عليَّ خلال السنوات الماضية القصص والمواضيع الصحفية الحزينة المتشعبة كما "تكاثرتْ الظباءُ على خِداشٍ.. فما يدري خداشٌ ما يصيدُ" ، هل أبدأ من الآبار بسرد قصص من الواقع عن شباب تاهوا ذات ليالٍ صحراوية مدلهمَّة هنالك وأهلكهم العطش في المسافة الفاصلة بين "الكلب لخظر" و"اكليب اندور" ولم يحظوا حتى بحقوق الأموات مثل التغسيل والدفن وكانو قد  ودّعوا عيالهم قبل فترة قليلة بحثا عن لقمة عيش؟ أم أبدأ ـ ولا أكتب هنا بقلم أديب روائي يعتصر خياله ـ بتسطير حروف متناثرة عن شيخ موريتاني ستيني باع كل أغنامه قبل أن يشد رحاله إلى "الشكَّاتْ" شمالي موريتانيا وانقطع به الاتصال ولا يدري ذووه أحيٌ يرجى أم ميتٌ يترحم عليه؟ أم  أكتب في الجانب الآخر من الصورة الايجابية عن أرقام رسمية ايجايبية لشركة "معادن موريتانيا" الوصية على المنقبين التقليديين والتي كان الآلاف من الشباب ضحية لأرقامها فكشف هذا الاستقصاء تناقض أرقامها مع أرقام البنك المركزي الموريتاني..

المرحلة الأولى لكسر الحجارة قبل أن تنقل إلى مرجل الزئبق 

ما ذا لو كانت البداية من تلك المساكن المعتمة في باطن الأرض وأنقل بالصور كيف ينام الرجال في غيابة الجب ويستيقظون وقد أوشكت السوافي أن تدفن أجسادهم المرهقة بالكامل؟ أو تكون البداية ـ مثلا ـ بقصة إنسانية أبعثها عبر البريد إلى عنوان مجهول في دولة السودان (كان الله في عون السودان المنكوبة) عن مواطنيْن سودانييْن اكتشف التحقيق ضريحيهما ضمن أجْداثِ المنقبين، ولا أعلم أين كانا يقطنان من تلك البلاد البعيدة لكن الله قدّر أن يكون مرقداهما الأبديان في "لمْهودات" شمالي موريتانيا؟ أم أنقل بالصور الفوتوغرافية والقلمية ـ وبعيون صحفي عايش المشهد سنوات ـ  عن رجال الخنادق من قضى منهم نحبه ومن ينتظر في سبيل لقمة عيش كريمة بعيدا عن شبهات الفساد الوظيفي.

بداية سفر إلى الأعماق

 البداية من الميدان ومن مكان يتيه فيه الرجال عبر رحلة شقاء سرمدية يبدأ أول فصولها المأساوية بشاب موريتاني عاش أيام البطالة ولياليها الطويلة قبل أن يتراءى له في الأفق المظلم برْقُ ذهبٍ خاطف خُلّب (وهو البرق الخادع الذي لا يتبعه مطر)  وتسرق أذناه حديثا للركبان القادمين من خلف غيوم الصحراء الشمالية حاملين معهم حبيْباتِ ذهب مجْهَريّة، فهَجر الدِّيار وترك المرابع هناك في العاصمة نواكشوط، أو هنالك في بلاد الله الواسعة موريتانيا عساه يعود ولو بعد حين وفي كفه حبّاتُ رملٍ ممزوجة بحصيات ذهب،  نزح مع آلاف النازحين فكان ذلك النزوح ـ في الغالب ـ سرابا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ترك الوالدين والأبناء والزوجة في رعاية الله إلى إشعار آخر.

 تتبّعنا  خطى المنقبين عن الذهب في حلِّهم وترحالهم، سامرناهم في ليلهم الشتوي المدلهِمِّ بخيَمِهم وأي خيَم؟ بل في أخبيتهم المتآكلة، عرّسنا في مَعْرسِهم البدائي، واجهنا معهم سوافي الصحراء العاتية قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومع تباشير الصباح وغبش الفجر الكاذب نهضنا معهم في فجر يمازج بين الأمل والألم، بين التفاؤل والإحباط، قضينا معهم نهارهم الكامل المغبر حتى غابت عنا شمس الأصيل وراء ذلك الأفق الداكن، تأملنا وجوه شيوخ شاحبة عليها غبرة، وتمعّنا تجاعيد شباب شابوا في أيام معدودات، وقفنا على حافة آبارهم حتى كدنا ننزلق ونحن نحاول أن نلتقط الصور، في تلك الخنادق الكبيرة لا ندري كيف ينجون بأعجوبة من الانزلاق نحو هاوية البئر فكل الحوافِّ غير مدعَّمة ولا مؤمنة.

خباء لبعض رجال التنقيب التقليدي

هنا حيث يضل الرجل الدليل في صحارٍ وسهول جرداء تمتد وتمتد إلى ما وراء الأفق البعيد، هنا "تازيازت" وهناك"تيجريت" وهنالك "اكْلَيْبْ اندور" سهول جرداء وصحارٍ كبرى يهلك فيها الإنسان الشريف العفيف بحثا عن ذهب تحدثت عنه وزارة الطاقة والمعادن وشركة "معادن موريتانيا" بعدها فتدفق عليه الشباب بالآلاف منذ ثمانية أعوام حيث بدأ التنقيب التقليدي عن الذهب في العام 2016 فتضاعفت هجرات الشباب في السنوات اللاحقة هجرة غريبة  سماها الكاتب الموريتاني الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل "الجنون الجماعي"  وفي المحصلة كان الثراء  ـ بالصدفة ـ لرجال قلة وكانت فوائدهم مصائب عند قوم آخرين.

 

ضربة حظ موجعة ..

"تبدأ عملية التنقيب التقليدي برأس مال قليل  يتكون من معول وفأس يضاف إليهما عضلات الإنسان وطاقته" يقول المنقب محمد عالي وقد شحب وجهه وتعايش مع آلام في الظهر والركبتين، يتحدث إلينا قبل استعداده للدخول في بئره التي زاد عمقها عن 50 مترا وبأنفاق متشعبة،

ويتابع الرجل وهو يتحدث من مقلع "الساكنة" ب"تازيازت" : في عمق هذه البئر يشمِّر الرجال عن سواعدهم كل صباح متحدين المخاطر كلها وبدون احتياطات السلامة، لا نمارس سوى لعبة حظ نظل هنا ننحت الحجر طولا وعرضا ونملأ الدلو فنخرجها بطريقة شاقة ثم نملأ الأكياس وننقلها إلى المطاحن ثم نتنفس بعد ذلك الزئبق السام الذي هو المادة الوحيدة لمعالجة الذهب كل ذلك  عسى الله أن يوفقنا وتساعدنا الحظوظ.

تسحب الدلو بطريقة شاقة وبعد ذلك تجربة حظ

وهكذا هي دوامة الحياة عند محمد عالي ورفاقه المنقبين الذين اختاروا لقمة عيش كريمة محفوفة بكل المخاطر تدور عليهم الأيام مع البكرة التي تُسحب عليها الدُّلِيُّ: صراع مع الحجر، فنَحْتٌ في جلمود الصخر، فدُلِيٌّ تُخرَج للنور ممتلئة بحجارة لونها رمادي وستعبأ وتنقل إلى مدينة "الشامي" التي ستطحن فيها وتعصر بماء الزئبق السام كما يعصر الزيتون ثم بعد ذلك "أنتَ وحظك".

(سالم) توحي سحنته وملامح وجهه أنه شاب في مقتبل العمر لكن الكدح في أيام البحث عن الذهب والصداع والحمى المزمنين ـ رغم اصطحاب بعض المسكنات المحفوظة تحت أشعة الشمس الحارقة ـ حولت جسمه المرهق إلى شيخ أشيب يتحدث عن رجال قلة ساعدتهم حظوظهم فكانوا يحصلون على غرامين من كل كيس (الكيس تزن 120 كلغ) وربما زادت حظوظهم مع زيادة كمية الأكياس فحصلوا على كيلوغرام وهم قلة قليلة، لكننا نحن ـ يقول سالم ـ نحاول منذ فترة جاهدين ولم تساعدنا الحظوظ ومع ذلك ما زلنا مصممين على المزيد، وربما سننتقل من آبار "الساكنة" إلى آبار "تيجيريت" و"لكراره" و"آحميمم" و"اخنيفسات"، أو ربما في منطقة "اكليب اندور" في أقصى شمال الشرق الموريتاني هنالك حيث يتحدث المنقبون عن آبار جديدة تم تنسيبها (التنسيب بلغة المنقبين يطلق على فحص بدائي لعينات من الاتربة ووجود حصيات ذهب).

ويتابع سالم: نحن هنا منذ سنة تقريبا ولم تساعدنا الحظوظ وعسى الله أن يكتب لنا الحظ هنالك في المناطق التي ذكرتُ لك.

زينب تبدأ يومها الجديد في صحاري التنقيب

(زينب) قصتها تستحق تقريرا أو "بورتريه" إنساني مستقل،  واحدة من عشرات النسوة اللاتي تستثمرن في التنقيب التقليدي ، صادفناها في "تيجيريت" وهي أم لثلاثة أيتام هم عبد الله وخالد وسميه، تركتهم في رعاية الله منذ فترة وودعتهم بالدموع ، لتصل هنا وتواجه نكد الدنيا ، لقد صهرتها نكبات الدهر وتجرّعت كأس الفقر الزعاق فلم تجد بدا من ارتكاب هذه المغامرة خاصة أنها ـ كما تقول ـ تعلمت من الشاعر الجاهلي الشنفري أن "... في الأَرضِ مَناًى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى... وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ." منأى الكريمة زينب عن أذى الفقر المدقع هو كوخ خشبي في أرض فلاة لا يقي من برد الشتاء القارس، تقف على حواف خندقها كل صباح وتكاد تسقط فيه وهي تراقب العمال يخرجون الحجارة من قعر الأرض عسى الحظوظ أن تساعدها ولو بعد شهور.

تلخص  زينب بصوتها المبحوح جراء الربو قصة الذهب فتقول: إن الأرزاق بيد الله وما هو مطلوب من العباد هو التكسب والأخذ بالأسباب، وقد بذلنا ما في وسعنا من الطاقة، مرة نحصل على "غرامات" كثيرة، ومرات لا تساعدنا الحظوظ، وهكذا هي الأعمال كلها.

تتحدى الأرملة العفيفة زينب الطبيعة القاسية التي تسرق كل يوم حصة من أنوثتها و تعبث بملامح وجهها وتشقق قدميها وتصمد في وجهة السوافي وبرد الشتاء القارس وشموس الصيف الحارقة كل ذلك يهون عليها ما دامت تنتظر أن تعود  وقد حصلت على مثاقيل من الذهب الخالص حتى توفر لهم ما يمسح دموع اليتم ويواصلوا دراستهم الابتدائية (كان بودي أن تبعث معي هدية إلى أولئك الأيتام في مدينة نواكشوط). 

كسر الحجارة الخارجة من قعر الأرض قبل التعبئة

هذه زينب وذانك سالم ومحمد عالي رجال ونسوة منسيون صامدون مصابرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، أجبرتهم ظروف البطالة على مواجهة الموت البطيء جراء الإهمال الصحي وغياب وسائل السلامة على حافة الهاوية إن لم يكن الموت السريع الناتج عن الانهيارات المتكررة وسقوط الأتربة من الحافة ثم استنشاق الأتربة المشبعة بالزئبق كل ذلك من أجل "تجربة حظ".

وهكذا البحث عن الذهب مجرد ومضات برق خاطف وضربة في عالم الحظ أشبه ما تكون بألعاب القمار مع الفارق الكبير بين التكسب الحلال وبين القمار، رحلة "سيزيفية" مستمرة كترحال  منمي المواشي الذين يلاحقون السحب والأمطار يحطون رحالهم حيث نزل المطر ثم لا يلبثون أن يشدوها إلى مكان آخر، لكن أولئك يرحلون إلى مكان المرعى وهؤلاء في ترحال دائم بحثا عن الحظ والحظ فقط.!!

خريطتان تحددان موااقع الذهب في موريتانيا ويرمز لمعدن الذهب  ب AU

لعبة الحظ في هذه الأحراش تختزل فيمن قادته الأقدار إلى "عِرْقِ ذهب" ترتفع فيه نسبة المادة فيكتشفونه بعد حفر خمسين مترا تقريبا ثم يتتبعونه أفقيا في الأعماق (العرق -بلغة المنقبين- هو أتربة في باطن الأرض تتشكل أفقيا بطريقة تشبه عروق الشجر في باطن الأرض).

 لا تخضع محاولات هؤلاء المنقبين الخطيرة لأية دراسة علمية مطلقا ولم نصادف ـ خلال رحلاتنا الشاقة ـ مهندسا مدنيا أو جيولوجيا واحدا، ولا متخصصًا في المجال.

 

"كوموغو" أو أنفاق الموت..

"كوموغو" كلمة مستوردة من اللغة المالية "بَامْبَارَا" وتطلق على النفق، وبلغة المنقِّبين التقليديين مصطلح مخيف يحيل في دلالته إلى أنفاق متعرِّجة تحت الخنادق والآبار المظلمة، تنعدم فيها وسائل السلامة المتبعة عالميا (safety) فليست لدى المنقبين التقليديين أقنعة واقية من الحجارة المتساقطة، ولا جوارب، ولا علبُ دواء ويبتعدون في الغالب عن مكان تغطيات الاتصال.

شحنة من أكياس الحجارة قادمة للتو من المقالع يحتمل أن تكون بها حصيات من الذهب

حق لمن شدّ حباله وهو يتدلى في "كوموغو" أن يكتب وصيته الأخيرة فهو مغامر متهور مسافر عن نور الحياة في رحلتين كلاهما أخطر من الأخرى، السفر الأول يتدلّى عموديا بعمق أكثر من خمسين مترا والسفر الثاني يسير راجلا أفقيا في خندق حفره بيده يتتبع "عِرْق الذهب" يدخل هنالك في ظلمات بعضها فوق بعض ويتزود بمصباح بدائي مشدود على الجمجمة.

قلة من الحالمين محظوظون يبعثون معهم مصابيح كهربائية ومروحات هوائية مزودة بمولد كهربائية على فوهة البئر ـ وتلك قصة أخرى عن احتمال تعرضهم لتماس كهربائي داخل البئر في أي وقت ـ وهكذا في عدة دقائق يودِّعون نور الحياة إلى ظلمات الأرض وتتحول حياتهم إلى ليل غاب بدره وطمست كواكبه في الغيوم،

ينظرون يمنة ويسرة فلا يريهم ضوء المصابيح سوى جلاميد الصخور الحارقة ثم تبدأ عملية النحت من هنالك وملء الدلاء بطريقة بدائية جدا.

 

(مساكن) تحت الأرض و(مساكين) فوقها..

مساكن المنقبين التقليديين هي مجرد أخبية مصنوعة من البطانيات ومنصوبة على أربعة عيدان يقطن في الخباء الصغير ما يزيد على عشرة رجال، يشكون في كل مرة مضايقة السلطات التي تمنع ضرب الخيام في المناطق القريبة من شركة "كينروس تازيازت" الكندية، فيلجأون إلى وضع مساكن تحت الأرض و آبار عمقها ثلاثة أمتار ينامون فيها قريري الأعين بين جدران بئر معطلة، ثم يستيقظون وقد كادت السوافي  تدفن أجسادهم المرهقة. ولئن كانت العرب تبالغ قديما في نكد العيش وصعاب الحياة فتقول إن "باطن الأرض خير من ظاهرها" فإن المنقبين يفضلون باطن الأرض على ظاهرها مطلقا حيث يقطن معظمهم في عمق الآبار.

مسكن من مساكن المنقبين تحت الأرض

يقتات الحالمون بثراء الذهب بوجبات بسيطة وهي في الغالب خليط من الأرز و"السردين" لوجبة الغداء وفي العشاء عجائن مع قديد اللحم، وكل وجبة يكون للسوافي نصيب منها.

الشاي الموريتاني مستمر خلال الأربع والعشرين ساعة تقريبا وهو المنشط الوحيد للعمال. 

 

وفيات وأرقام مخيفة.

من الشباب الذين باعوا متاجرهم الصغيرة أو مواشيهم وودّعوا أهليهم بحثا عن ثراء أو لقمة عيش يتعففون بها ما كانوا يعلمون أنها الرحلة الأخيرة فقضوا في هذه الصحراء، وحسب الإحصاءات التي حصلنا عليها من السلطات ومن وسائل الإعلام المختلفة ومن سفارة السودان فإن  أكثر من 86 شخص على الأقل لقوا حتفهم في السنوات الأربع الأولى للتنقيب في أكثر من 20 حادثة قبل سنة 2020 التي صدر فيها مرسوم شركة "معادن موريتانيا".

الوقيات بلغة الأرقام خلال الأعوام الأولى للتنقيب أي قبل مرسوم شركة معادن موريتانيا

كثيرون هم القتلى الذين لم يحظوا حتى بالصلاة عليهم مثل ضحايا "الساكنة" ولا يعرف بالضبط مكان أضرحتهم وإن استطاع المنقبون أن يضعوا سياجا تقريبيا لضريح القتيل ممادو الذي ينحدر من مدينة "باركيول" جنوبي موريتانيا، وقد انهارت عليه البئر عندما أدخله رفاقه وتتبع "العِرق" أفقيا فتضرر من تربته غير المتينة، هكذا يفترضون، أما الأخبار بالتفصيل فقد دُفنت مع القتلى أنفسِهم.

 في منطقة "آحميم" عثرنا على أضرحة "بئر الراية" وعبثا حاولت السلطات الموريتانية باستخدام آليات الحفر التابعة للشركة الوطنية للصناعة والمعادن "اسنيم" العثور على جثامين الضحايا، لكنها وقفت عاجزة عن ذلك، وهؤلاء هم سالم ولد عبدي واشريف ولد بلال اللذين قضيا في ظلمات البئر في يوم شتوي مغبر بتاريخ 02/27/ 2019 .

.شهداء بئر الراية

 

  وفي "لمْهَوداتْ" فشلت الحفريات نفسها في إخراج اثنين من ضحايا التنقيب سودانييْ الجنسية وهما أحمد بدوي ومحمد حسين وقد فارقا الحياة بتاريخ 27/08/2019م،  ولا أدري ماذا يعلم عنهم أهلوهم في دولة السودان بعد أربع سنوات من الحادثة زاد عليها أوضاع السودان الحالية، وما أعرفه هو أن ظروفا قاهرة أخرجتهم من وطنهم؛ ليواجهوا الموت المحقق في صيف الصحراء الموريتانية الحارق.

شهداء لمهودات

وفي "اكليب اندور" شمالي موريتانيا تكررت حوادث الانهيارات حتى تحولت الكنوز في بعض المناطق إلى مقابر جماعية فلا يدري الناجون أيحفرون عن تلك الأضرحة المسيّجة بحثا عن الذهب أم يتركون للأموات حقوقهم.

هي مقابر جماعية وأرقام مخيفة منذرة بمزيد من تساقط الضحايا، وأغرب ما في الأمر أنه في حديثنا مع المنقبين لاحظنا أن الهروب من جحيم البطالة إلى "الحلم الذهبي" جعلهم يألفون الموت ويتحدّونه ولا يتعظون أثناء سرد تلك القصص المدمية، فأن تموت مشاعر المرء حتى يألف  وداع الأصدقاء ورفاق العمل إلْفًا معتادًا، فذلك أصعب موقف واجهناه في هذا التحقيق الإنساني.

معادن موريتانيا : التنقيب التقليدي رافد من روافد الاقتصاد

مقر شركة معادن موريتانيا الوصية على المنقبين

هذا وبعد أربع سنوات من تساقط  الشهداء تباعا في الصحراء الممتدة من إينشيري إلى تيرس زمور والذين ناهز عددهم 86 أنشأت الدولة الموريتانية المرسوم رقم 065/ 2020 الصادر تباريخ 5 مارس 2020 المنظم لشركة "معادن موريتانيا" هذه الشركة التي استبشر بها المنقبون التقليديون بعد سنوات من الكد والفوضوية، ولم ينكر المنقبون التقليديون ـ رغم سخطهم عليها ـ أنها قدمت عدة منشآت خدمية منها توفير نقاط لشبكة الاتصالات، ومنها توفير صهاريج مياه وخزانات بلاستيكية. 

صهريج ماء يتبع لمعادن موريتانيا

تقول "معادن موريتانيا" إنها قامت بتنظيم قطاع التنقيب التقليدي وشبه الصناعي للذهب في موريتانيا وتحدث المدير العام للشركة السيد حمود ولد امحمد بعد سنة واحدة من إنشائها في لقاء مع المدونين عن إنتاج الذهب يوميا في موريتانيا وفي منطقة "الشكات" وحدها أنه يقدر ب 40 كلغ من الذهب أي ما يعادل 14 طنا من الذهب يوميا.

 وقد تناقض هذا التصريح الرسمي مع التقرير السنوي للبنك المركزي حيث أكد الأخير أن الناتج الإجمالي من الذهب للعام 2020 بما فيه إنتاج شركة (كينروس) وشركة  MCM العاملتين في مجال التنقيب عن الذهب كان 454.1 ألف أونصه أي ما يناهز 13 طنا سنويا حسب البنك المركزي.

مدير وكالة معادن يتحدث عن 40 كلغ من الذهب يوميا خلال عام 2020 المصدر (صفحة معادن)

فكان هذا التناقض بين مؤسستين رسميتين يشكك في صدقية الأرقام الدقيقة لعائدات التنقيب التقليدي على الاقتصاد الموريتاني خاصة أن مدير معادن قال في نفس اللقاء مع المدونين إن معظم المنقبين يُهربون الذهب خارج الدورة الاقتصادية.   

مصدر الوثيقة البنك المركزي وهو يتحدث عن إنتاج موريتانيا من الذهب 2020

ورغم القصص المأساوية القادمة من الميدان فإن شركة "معادن موريتانيا"قامت بحفر بعض الآبار في نقاط عدة كانت خالية من المياه خلال بدايتنا الأولى في تحقيقاتنا عن الذهب التقليدي، كما وفرت الشركة الوصية بعض صهاريج المياه للمنقبين وكذلك بعض الخزانات المائية البلاستيكية.

وفي آخر تقرير لوكالة"معادن موريتانيا" تحدثت عن ارتفاع المؤشر الاقتصادي لهذا النشاط حيث بلغ في السنوات الأربع الماضية ما يقارب على 4700 كلغ من الذهب كما هو موضح في الرسم البياني التالي: 

دور التنقيب في الاقتصاد ـ مصدر الأرقام  شركة معادن موريتانيا

 

 

ارتباك في إصدار البادجات

 

ثلاث بادجات لشخص واحد موقعة من طرف المدير العام لشركة معادن حمود ولد امحمد

وعبر بعض المنقبين  عن استيائهم من فرض بادجات جديدة من قبل شركة معادن موريتانيا  قبل انتهاء صلاحية البادجات الاولى.

وقال المنقب محمد في تصريح للشروق ميديا : إنه يحمل معه الآن ثلاث "بادجات" ولم تنته صلاحيتهم جميعا كما هو مبين في الصورة.

ويتم الحصول على "البادج" لكل منقب يلج الأراضي المرخصة وتتراوح أسعار بادج الأشخاص والسيارات والشاحنات ما بين 10.000 و 200.000 أوقية قديمة. 

 

 

خرق لاتفاقية ميناماتا

العجلات الطاحنة للذهب وداخل المرجل ماء الزئبق في الصورة الأتربة البيضاء المشبعة بالزئبق

وعلى مرأى ومسمع من السلطات الموريتانية وشركة "معادن موريتانيا" يستعمل المنقبون في مطاحنهم سائل الزئبق القاتل كي تلصق بها مادة الذهب المحتملة، وفضلا عن خطورة هذه المادة التي يفرط المنقبون في استعمالها أثناء التنقيب الا انها خرق واضح وسافر لمعاهدة (ميناماتا) وهي معاهدة تهدف إلى حماية صحة الإنسان والبيئة من انبعاثات الزئبق ومركباته وإطلاقاته  وجاءت هذه الاتفاقية نتيجة 3 أعوام من الاجتماعات والمفاوضات والتي تم بعدها الاتفاق على نص المعاهدة من قبل ممثلي مايقارب 140 دولة من بينهم موريتانيا  وذلك بتاريخ 19 يناير عام 2013 في جنيف واعتمدت ووقعت لاحقًا في 10 من أكتوبر من العام ذاته في مؤتمر دبلوماسي عقد في مدينة كوماماتو في اليابان.

 

 

وكنا مسعفين.. 

قبل أن ننهي هذا التحقيق لا بد أن نلحق قصة إسعاف اضطرارية واجهتنا من شاب كان يستخدم "آبار النار" وهي الآبار التي يوقد فيها المنقبون النار في الخشب في الأعماق ثم يخرجون بسرعة ويتركون النار يومين حتى تلين الحجارة ثم يعودون وأحيانا يصابون بالاختناق وهم يتنفسون الدخان في الأعماق وبعضهم فارق الحياة جراء الاختناق.

تعرض الشاب عبد الله لأزمة ربو شديدة وحروق في الأطراف ونحن في زيارة له بالصدفة فكان الواجب الإنساني يفرض عليك  أن تستقيل ولو مؤقتا من مهنة صحافي يبحث عن الحقيقة إلى مهنة مسعف يريد إنقاذ بشر قد تترك حالته المرضية تتفاقم إلى الموت لا قدر الله كما وقع مع عدة مرضى في هذه الآبار الخانقة.

المنقب عبد الله قبل الإسعاف

رافقنا السيد عبد الله إلى اقرب نقطة صحية وهي مركز بير أمكرين ووصلنا الساعة الحادية عشر ليلا وقابلنا الطبيب هناك وقدم له بعض الإسعافات ثم الأدوية.

بعد ساعة بدأت حالته الصحية تدعو للتفاؤل ويحاول الجلوس مستقيما خرجنا من المركز الصحي واستطاع النوم بعد ليال من السهر. 

 

المننقب عبد الله في المركز الصحي

أخذ رفيقنا المنقب الهاتف واتصل بأهله بعد شهور عدة من الانقطاع فكان يستمع إلى حصيلة أشهر من الأخبار منها عملية جراحية لأحد أبنائه الصغار وقد انقطع الاتصال منذ أن هاجر إلى تلك المنطقة حيث أن ظروفه لا تسمح له بتوفير الثريا.

كان الله في عون هذا المنقب الذي عاد بعد أسبوع واحد من التماثل، وكان الله في عون كل المنقبين وهم في مواجهة السوافي والطبيعة القاسية وآبار النار الحارقة، وسوائل الزئبق السام، وحقق الله كل أحلامهم الذهبية. 

فيديو: 

اقرأ أيضا