أكاديمي موريتاني يفسر "صمود موريتانيا المفاجئ" في وجه الإرهاب (دراسة)

سبت, 2020-06-20 22:05

اقترح الأستاذ جامعة نورث وسترن الأمريكية زكريا ولد أحمد سالم تفسيراً جديدا لما وصفه "الصمود المفاجئ" لموريتانيا أمام موجة الهجمات الإرهابية خلال العقد الماضي داعيا إلى إعادة النظر في نسق التفسيرات الذي باتت الحالة الموريتانية تتحداه.

ويقول الكاتب في ورقة نشرها "مشروع العلوم السياسية حول الشرق الأوسط" وتقدم "الشروق ميديا" ملخصا عنها إن موريتانيا استفادت من جملة من العوامل البنيوية والظرفية في المنطقة مكنتها من الصمود. وجاءت الورقة بعنوان "إعادة نظر في نسَق الدولة الضعيفة في ضوء الحرب على الإرهاب: دليل إثبات من الجمهورية الإسلامية الموريتانية".

وفي رأي الأكاديمي الموريتاني، يمكن بسهولة تصنيف موريتانيا على أنها أضعف حلقة أمنية في منطقة الساحل. فمع تاريخها من الانقلابات المتكررة، والتوترات العرقية المستمرة، وسوء الحكم، فإن هذه الدولة الصحراوية قليلة السكان تجسد المثال على ضعف الدولة. ومع ذلك، فعندما شن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي حملة إرهابية هناك على مدى ست سنوات (بين 2005 و2010)، تمكنت في نهاية المطاف من ردع النشاط الجهادي حتى في خضم التقلبات الشديدة في منطقة الساحل والمنطقة المغاربية وما بعد اندلاع الربيع العربي في 2011.

 

المفارقة الموريتانية

وير أنه من المثير للاهتمام أن موريتانيا أحبطت التهديد الجهادي بينما كانت البلاد تخرج للتو من حلقة من عدم الاستقرار في هرم السلطة، بعد أن أطاحت لجنة عسكرية برئيسين منتخبين، على التوالي في 2005 و2008. بينما انهارت تقريبا في السنوات الموالية دول أكثر استقرارًا وديمقراطية (مثل مالي) تحت الضغط الجهادي، وأصبحت موريتانيا نموذجاً للسياسة الفاعلة في مكافحة التطرف العنيف، مشيرا إلى أن المراقبين الأجانب أصيبوا بالحيرة لبعض الوقت أمام هذه "المفارقة الموريتانية".

وبحسب وثائق ضبطتها القوات الأمريكية عندما داهمت مخبأ بن لادن في باكستان في 2011، يبدو أن قادة القاعدة ناقشوا خطة في 2010 للتوصل إلى هدنة مع حكومة موريتانيا، إلا أن السلطات المحلية نفت هذه النظرية بشدة، ولم يقتنع إلا القليل من المعلقين الأجانب بمصداقيتها. والأهم من ذلك أن هذه الرواية لا تفسر بما فيه الكفاية لماذا استطاعت دولة ضعيفة مثل موريتانيا تحقيق استقرار في الحكم ومعالجة مخاوفها الأمنية، وكسر الحلقة الجهادية.

ويقترح ولد أحمد سالم تفسيراً بديلاً لـ"الصمود المفاجئ الذي أظهرته موريتانيا" مضيفا: "بالاعتماد على إعادة بناء دقيقة لتسلسل الأحداث في المسار السياسي الأخير للبلاد، أزعم أنها، رغم كونها في الأساس دولة ضعيفة، إلا أن موريتانيا استطاعت مع ذلك الاستفادة من عدد من الفرص الاستراتيجية واستغلت بشكل فعال مزيجاً من جهود تحقيق الاستقرار الداخلي والسياسات الأمنية، والمشاركة السياسية وبرامج المناصحة".

ويشير الكاتب إلى أنه في السياق الإقليمي خلال تسعينيات القرن الماضي، الذي ميزته المخاوف في جميع أنحاء المنطقة بشأن الحرب الأهلية الجزائرية، أقدم نظام الطايع على مضايقة التيارات والمؤسسات والشبكات الإسلامية بشكل واضح. وقد أثار حماس الطايع للحرب على الإرهاب وسياسته العدوانية المعادية للتوجهات الإسلامية نتائج عكسية في نهاية المطاف، عبر جذب التوجهات الجهادية إلى البلاد والمساهمة في سقوط النظام.

 

طريقتان في الرد

وخلال موجة الهجمات الإرهابية، ردت الحكومة بقوة بطريقتين. فأولاً، قامت بالتحقيق المنهجي في الهجمات، واعتقلت مرتكبيها وحاكمتهم. وثانيًا، بدأت حربًا وقائية وقصفت مخابئ الإرهابيين في شمال مالي على سبيل المثال. وبدأت استراتيجية أمنية في الظهور، بما في ذلك تدابير رئيسية مثل: إصلاح قطاع الأمن وزيادة الإنفاق العسكري وقانون أكثر صرامة لمكافحة الإرهاب وضبط أفضل للحدود الممتدة على 2200 كيلومتر مع مالي وتعاون أوثق مع الحلفاء الغربيين، فضلا عن نظام وطني بيومتري جديد للسجل المدني.

وشكل هذا الجهد نقلة في تصميم الحكومة على تأمين البلاد ومحاربة القاعدة. وبدأت موريتانيا بسرعة في إظهار قدراتها العسكرية المكتسبة حديثًا من خلال اعتقال كثير من المهربين وشن عمليات لتحرير الرهائن الغربيين أو التفاوض على تحريرهم دون دفع أي فدية. وعلى سبيل المثال، تمكن ضباط المخابرات الموريتانية في غضون أيام من التعرف على عمر الصحراوي في شمال مالي وتعقبه واختطافه، وهو قائد المجموعة التي اختطفت ثلاثة إسبان في نوفمبر 2009. ومن ثم نُقل المشتبه به إلى نواكشوط. وأطلقته السلطات لاحقاً مقابل تحرير الرهائن الذين كان هو نفسه قد اختطفهم. وقد تركت هذه العملية انطباعًا قوياً لدى شركاء البلاد الاستراتيجيين الغربيين وجيرانها. في هذه الحالة بالذات، بدا أن موريتانيا أحيت شبكات استخباراتها التي يعود عمرها لعقود داخل مجتمعات العرب والطوارق في شمال مالي للحصول على معلومات استخبارية دقيقة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وقد حددت القاعدة في المغرب الإسلامي لاحقًا بعض أولئك المخبرين المندسين. ونُشرت بعد ذلك مقاطع فيديو مروعة لإعداماتهم على المواقع الجهادية.

 

"الانتهازية الاستراتيجية"

رغم أن نظام عزيز سعى في وقت مبكر للظهور على أنه "صارم على الإرهاب"، فقد ادعى بنفس القدر أنه منفتح على الحوار، وانخرط في وقت مبكر من عام 2010 في مشروع للمناصحة يستهدف معتقليه الجهاديين. وكانت الحكومة عبر إطلاقها برنامج المناصحة، تأمل في نزع الشرعية عن الخطاب المتشدد بين الجمهور المسلم.

وجاء الاقتراح الأصلي من محمد الحسن ولد الددو وجميل منصور، وهما على التوالي الزعيم الروحي ورئيس الحزب السياسي الإسلامي الأبرز تواصل (إخوان مسلمون)، حيث كان الرئيس عزيز يتمتع بشعبية في الدوائر الإسلامية المعتدلة منذ أن قرر قطع جميع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في عام 2008.

وفي النهاية، أعلن 55 محتجزًا أخيرًا التوبة والتخلي عن أفكارهم المؤيدة للجهاديين. وفي المقابل، وعدتهم الدولة بتقديم الدعم الروحي والإفراج عنهم وببرامج رعاية وفرص الاقتصادية. ولم يشمل الحوار أولئك الجهاديين الذين أدينوا بالفعل بالتورط في أعمال إجرامية. كما أن بعض المعتقلين الآخرين الذين كانوا يقضون أحكامًا كانوا مؤهلين نظريًا للبرنامج ولكن لم يُسمح لهم بالحصول على الإفراج المبكر.

ومع أنها شنت حملة ضد الخطوة وحذرت مقاتليها من قبول تلك الأفكار، إلا أن الخطوة أثرت بطريقة ما على عدوانية تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لموريتانيا. في غضون ذلك، فإن الجمع بين السياسات الأمنية وبرامج المناصحة وضع البلاد في موقف أفضل لاغتنام الفرص الاستراتيجية الإضافية التي يوفرها السياق الجيوسياسي.

 

أربع فرص استراتيجية

يعود الفضل في جزء من نجاح موريتانيا إلى قدرتها على الاستفادة من عدد من الفرص، بعضها بنيوي والآخر ظرفي. فأولاً: وعلى عكس مالي أو النيجر، ليست لدى موريتانيا حركة انفصالية ولا جماعة جهادية قوية تستقر على أراضيها. وثانيًا: انتهت المواجهة المسلحة بين موريتانيا والجهاديين قبل أن يتحالف مقاتلو الطوارق العائدون من ليبيا مع القاعدة للسيطرة على شمال مالي منتصف عام 2012. وثالثًا: في الوقت الذي شهدت فيه مالي انقلابًا عسكريًا جديدًا في مارس 2012 وواجهت تهديدًا جهاديًا عدوانيًا، كانت موريتانيا قد كثفت بالفعل انخراطها العسكري وأكملت برنامج المناصحة مع السجناء.

وعلى مستوى رابع: استفادت موريتانيا من الأزمة في مالي ومن انهيار نظام القذافي حيث حوّلت هذه الأحداث انتباه الجهاديين إلى ساحة المعركة في ليبيا. وبالإضافة إلى الاستخدام الفعال لهذه الفرص البنيوية والظرفية، رفضت موريتانيا الانضمام إلى التدخل العسكري الفرنسي في مالي بعد يناير 2013، وهكذا ضمنت موقفاً محايداً كانت في أمس الحاجة إليه.

وبعد أن قامت الحرب الأهلية على قدم وساق في مالي، استضافت موريتانيا مئات الآلاف من اللاجئين من الطوارق، ذلك ما عزز قنوات الاتصال القوية فعلاً بينها وبين أبرز قادة مجموعات الطوارق. وبعض هؤلاء كانوا بالفعل قد انضموا إلى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ضد التدخل الدولي بقيادة فرنسا في مالي في يناير 2013.

 

تحول الانتباه

وبحلول ذلك الوقت، كانت الجماعات الجهادية مشغولة للغاية في خوض معارك أخرى على جبهات أخرى (الجزائر وليبيا والنيجر وليبيا وبوركينا فاسو) أو قتال فرنسا والقوات الأممية في مالي. وهكذا بدت موريتانيا وكأنها ذات قيمة استراتيجية ضئيلة. ومع انسحاب القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من البلاد، واصلت موريتانيا التزامها بالحرب العالمية على الإرهاب. فوفرت على سبيل المثال الدعم للجيش الفرنسي وفتحت قواعدها العسكرية لاحتياجاته اللوجستية. وبالإضافة إلى ذلك، انخرطت الحكومة في تحالفات ومبادرات دولية تهدف إلى بناء تحالف دولي ضد النزعات الجهادية في المنطقة، وفي هذا السياق قاد الرئيس محمد ولد عبد العزيز المبادرة الإقليمية لمكافحة الإرهاب التي سُميت "مسار نواكشوط" (2013) والتي ستصبح فيما بعد "مجموعة الساحل 5"، وهي منظمة أمنية تضم بالإضافة إلى موريتانيا كلاً من مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد.

 

لا تغيير في الأفق

ورغم أنه لا تلوح نهاية في الأفق لدورة العنف والإرهاب في المنطقة، إلا أن موريتانيا كما يرى الباحث تواصل تجنب الاضطرابات الإقليمية وتتلقى باستمرار الإشادة باعتبارها قوة استقرار. ومع ذلك، ونظرًا لأن النجاح في معالجة المخاوف الأمنية غالبًا ما يتغلب على اعتبارات قدرة الدولة ذات الصلة، فقد كانت حكومة عبد العزيز غير قادرة ولا راغبة في إيجاد حلول حقيقية للتحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الهائلة التي استمرت في مواجهتها. وفي عهد الرئيس عزيز، استغل النظام الموريتاني "عنوان الدولة الآمنة" لزيادة سيطرته السياسية الداخلية، ونهب الموارد الوطنية وكبح مطالب التحول الديمقراطي.

ويستبعد زكريا ولد أحمد سالم أن يغير محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي عمل طويلاً رئيساً أركان الجيش ووزيراً للدفاع، استراتيجية الأمن القومي هذه والتي شارك هو نفسه في وضعها وتطبيقها. ويرى أنه في كل الأحوال، سيظل خطر التطرف والإرهاب قائماً ما دامت الجماعات المتطرفة قادرة على الاستفادة من عوامل انعدام الأمن التي ما تزال قائمة في موريتانيا وفي المنطقة، وهي تحديداً الفقر والتفاوت والفساد وغياب الديمقراطية والتنمية.

ومع ذلك –كما يختم الكاتب- لا يمكن أن ننكر أن مسار موريتانيا الأخير يتحدى فهمنا لصمود الدول الضعيفة أمام "الإرهاب" وللتفاعل بين أحداث التمرد العابرة للحدود الوطنية والسياسات المحلية والإقليمية.

وصدرت لزكريا ولد أحمد سالم عدة بحوث وكتب حول منها "الوعظ في الصحراء: الإسلام والسياسة والتغيير الاجتماعي في موريتانيا"، وهو أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة نورث ويسترن ورئيس مركز الفكر الإسلامي في إفريقيا ومركز الدراسات الإفريقية في نفس الجامعة.

 

ترجمة وتحرير: الشروق ميديا

للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا

اقرأ أيضا