لنذكر مرة أخرى بالقصة التي تقول بأن أبا ثريا كان يملك قصرا فخما، قرر ذات يوم أن يأخذ ابنه في رحلة إلى بلدة فقيرة في الريف لا يسكنها إلا الفقراء، وكان الأب يريد من تلك الرحلة أن ينبه ابنه إلى أنه يعيش في نعيم ورخاء قد حُرم منه الكثير من أطفال الفقراء. قضى الأب وابنه أياما في ضيافة أسرة فقيرة جدا كانت تسكن في مزرعة بالبلدة الفقيرة وفي طريق العودة دار بين الأب والابن الحوار التالي:
الأب : كيف كانت الرحلة ؟
الابن : كانت رحلة رائعة
الأب : هل شاهدت يا بني كيف يعيش أهل هذه البلدة، وكيف كانت تعيش الأسرة التي أقمنا عندها؟
الابن : نعم يا أبي لقد شاهدتُ كل ذلك، فالأسرة التي أقمنا عندها تملك أربعة كلاب ونحن لا نملك إلا كلبا واحدا، وهي تملك بركة ماء لا حدود لها ونحن في منزلنا لا نملك إلا حوض سباحة صغير، ونحن نضيء حديقتنا الصغيرة بمصابيح، أما هم فيضيئون حديقتهم ذات المساحة الشاسعة بنجوم تتلألأ في السماء، وباحة منزلنا ضيقة في حين أن باحة منزلهم تمتد مع الأفق.
ظل الأب يستمع لمقارنات الابن الغريبة دون أن يعلق عليها، وذلك من قبل أن يختم الابن حديثه بالاستنتاج التالي:
لقد عرفتُ يا أبي كم نحن فقراء، وكم هم أغنياء!!
لا فرق في قراءة هذا الطفل لواقع الأسرة الفقيرة، و قراءة "العبد الفقير"، "صاحب الوزارتين"، "مصلح الحزب الحاكم"، لواقع موريتانيا الفقيرة، فالعبد الفقير، وحاله في ذلك كحال "رئيس الفقراء" يرى بأن الموريتانيين يعيشون في نعيم وفي نمو متسارع وفي رفاه مشترك، ولذلك فعليهم أن يدفعوا المزيد من الضرائب والإتاوات لحكومتهم الفقيرة.
تقول حكومتنا الفقيرة بأنها رصدت 42 مليار أوقية لمحاربة آثار الجفاف، ولكن حكومتنا لما نظرت إلى واقع المنمين بعيون الطفل بطل القصة، وجدت بأنها هي الفقيرة، وبأن المنمين أغنياء، ولذلك فهي أولى من المنمين بالأربعين مليار أوقية.
ليس لدى حكومتنا الفقيرة ما تقدمه للمنمين في عام القحط هذا، ليس لديها ما تعينهم به غير التنازل لهم عن تعرفتها الجمركية على العلف المستورد، وفي ذلك التنازل الكثير من التضحية، بل وفيه الكثير من الإيثار، وعلى المنمين أن يفهموا ذلك وأن يقدروه وأن يشيدوا به.
وعلى أطر الولايات الرعوية وعلى منتخبيها ووجهائها ـ وقد عرفناهم مبدعين في مجال التطبيل والتصفيق ـ أن يشيدوا بهذا الإنجاز العظيم، وبهذا المستوى غير المسبوق من الإيثار، والذي جعل حكومتنا المعروفة بالجشع تتنازل وهي في كامل قواها العقلية عن الرسوم الجمركية التي كانت تحصل عليها من استيراد العلف.
هنا قد يقول قائل بأن سعر العلف قد ازداد بشكل جنوني في بعض المناطق وبأنه قد اختفى تماما في مناطق أخرى بعد مرور عشرين يوما على البدء في تنفيذ هذا الإنجاز غير المسبوق، والمتمثل في التنازل عن الرسوم الجمركية المفروضة على العلف ..صحيح أن العلف قد اختفى من بعض المناطق، وارتفعت أسعاره حتى وصلت إلى مستويات لا تطاق في المناطق التي لم يختف منها حتى الآن، ولكن كل ذلك يمكن تفسيره بأنه يعبر عن أروع أشكال تضامن التجار الأغنياء مع حكومتهم الفقيرة، فعندما قررت الحكومة الفقيرة في لفتة كريمة منها أن تتنازل عن الرسوم المفروضة على العلف، وهي في أمس الحاجة لتلك الرسوم، قرر التجار أن يتوقفوا عن استيراد العلف، فأي فائدة لاستيراد العلف ما دامت الحكومة لن تفرض عليه رسوما جمركية؟
إن التجار يريدون بهذا التصرف النبيل أن يثبتوا لرئيس الفقراء، بأنهم ليسوا أقل حبا له، ولا أقل تعلقا به من فقراء البلد، وبأن لقب "رئيس الأغنياء" أو "رئيس التجار" هو أولى به من لقب "رئيس الفقراء".
يبقى أن أقول بأن حقوق هذا التفسير الذي جئتكم به لاختفاء العلف ليست محفوظة، وبالتالي فيمكن لأي مطبل في أي ولاية رعوية أن يدعي ملكيته لهذا التفسير التزلفي، وله الحق ـ كامل الحق ـ في أن ينسبه إلى نفسه، وله الحق ـ كامل الحق ـ في أن يطلق مبادرة لشرح مضامين هذا التفسير الغريب والعجيب الذي جئتكم به.
بالعودة إلى قصة الطفل وقراءته المقلوبة للواقع، فإليكم نماذج مشابهة من قراءات حكومية مقلوبة لواقع الفقراء.
من الأسباب التي جعلت الحكومة لا تتعاطف مع المنمين في عام القحط هذا، هو أن الحكومة ترى بأن الكثير من المنمين هم من المفسدين ومن المتهربين من الضرائب، ولذلك فقد استثمروا أموالهم الطائلة في تنمية المواشي بدلا من استثمارها في أنشطة تجارية يمكن أن تفرض عليها ضرائب، ولذا فالحكومة لن تبيعهم أعلافا مدعومة، فمثل ذلك سيعتبر تشجيعا للتهرب الضريبي، وسيستفيد منه المفسدون. يقال بأن صاحب هذه الفكرة هو "العبد الفقير"، "صاحب الوزارتين"، "مصلح الحزب الحاكم"، والذي يُقال أن دخله الشهري يصل إلى 25 مليون أوقية قديمة.
ترى الحكومة، وهذا ما قاله الرئيس للأطباء، بأن مجانية الحالات المستعجلة لا مبرر لها، لأنه ليس من المقبول أن يمنح للمريض دواءً مجانيا في الوقت الذي يوجد بهاتفه رصيد!
من يقول منكم للحكومة بأن المستشفيات العمومية لا يقصدها في العادة إلا الفقراء، سواء كانت في هواتفهم أرصدة أو لم تكن فيها. أما الأغنياء فيذهبون عادة إلى العيادات الخاصة أو إلى الدول الخارجية عند إصابتهم بأي مرض.
ترى الحكومة بأنه لا يجوز لها تخفيض أسعار المحروقات بعد أن انخفضت أسعار النفط في الأسواق العالمية، وترى الحكومة بأنه يحق لها أن تتربح من شعبها الغني من خلال الفارق الكبير في أسعار المحروقات، فتخفيض سعر المحروقات لا يجوز لأنه قد يستفيد منه بعض الشباب في تجوالهم بسياراتهم، وذلك ما قاله "رئيس الفقراء" ـ عفوا "رئيس التجار" ـ في حديث سابق.
وتبقى أسئلة سريعة خارج موضوع المقال :
هل سيقدم وزير الداخلية في بيانه الذي سيلقيه غدا عن الحالة في الداخل حصيلة لعدد ضحايا الطعن بالسكاكين خلال آخر أسبوع؟ وهل سيذكر في المجلس بمرور أسبوعين على عملية السطو على فرع التجاري بنك ودون أن يلقى القبض على الجناة، ودون أن يُقال أو يستقيل أي مسؤول في قطاع الأمن؟
هل سيقترح وزير الطاقة والنفط على الرئيس خلال مجلس الوزراء أن يعلن عن إطلاق حوار حول الموارد الجديدة من الغاز كما فعل نظيره السنغالي؟
هل ستصدر وزيرة التنمية الريفية بيانا يثمن ببراءة اختراع تتعلق بصناعة أعلاف من خليط "التيفا" و"توكه"، كان قد حصل عليها في الأيام الماضية صاحب مشروع موريتاني رائد؟ وهل سيتم العمل على الاستفادة من براءة الاختراع هذه، والتي كان قد تم الإعلان عنها في وقت تعاني فيه بلادنا من جفاف خطير ومن نقص حاد في العلف؟
يمكنكم أن تتوقعوا من مجلس الوزراء أن يهتم بأي شيء، ولكن عليكم أن لا تتوقعوا منه أن يهتم بقضايا وملفات هامة من قبيل الاهتمام ببراءة اختراع أو بمشروع رائد جعل من "توكه" منتجا موريتانيا رائدا حصد حتى الآن الكثير من الجوائز الدولية.
حفظ الله موريتانيا..