ولد سيدي ميله كاتب أنجبته الصحراء

أحد, 2014-12-14 14:30

حقا هذه الصحراء الملتهبة الصامدة في قيظ الشموس الحارقة عبر آلاف السنين، هذه الصحراء أو الأم الولود لا تنجب إلا بعد مخاض عسير لكنها تخرج  من صلبها ولدانا مثلها في القساوة تحتضنهم وترضعهم من أثدائها الخشنة أحوالا متتالية حتى إذا ما بلغ الرجل أشده خرج صحراويا بامتياز يتحدى صعاب الحياة ويقف أنى يصفع المظلوم، ويسكن حيث يعاني المنسيون، يكثر عند الفزع ويقل عند الطمع يصارع الجبروت ويهز عروش الظالمين ويحتقر أولائك القوم الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ولا يرقبون في ضعيف إلاًّ ولا ذمة.

كذلك أخرجت الصحراء  الكبرى ذات يوم مشمس أثقالها، وولدت  فتى من رمال اترارزه  محمد فال ولد سيدي ميله اسم يعرفه كل محروم مظلوم ضعيف مغلوب على امره، ويجهله كل متربع على عرش من عروش الظالمين وإن عرف الطغاة كثيرا قلمه البتار وما يسطر عبر عقود مضت  يتلهف فيها القراء لقلمه وتشتاق عيونه ل"قزحيات" الرجل يوم أن كانت تتحدث عن سلاسل العبيد إذ يعيشون في أغلالهم تحت رق عتاة الأسياد، وتفضح اختلاس الحكام لثروة شعب صلبته مآسي الحياة..

عرفت الرجل وأنا ذلك المراهق المشغوف بالقراءة الصحفية، أقرأ كل حرف من حروفه الصقال ذات النكهة الأدبية السلسة أتمتع بها وأتمعن كل حرف وفاصلته على حدة فأحللها حرفا بعد الآخر، ثم أقرأ الزاوية مرات ومرات. ولئن كانت لي أحلام مراهق يومئذ إلا أنني ما كنت أبدا أحلم أنني سأكتب خبرا صحفيا بلغة ركيكة الأسلوب في نفس الجريدة التي يسطر فيها "بدال" زاوية "قزحيات" ولكن الرجل لم يكن يعرف الطبقية فكلفني يومها بتغطيات كبيرة في جريدة العلم، كنت أنتظر الزاوية وأحرص على طباعتها قبل خروجها، إنها الحروف تتصبب واللغة تنساق لقلمه السيال انسياقا، تجذبك بسلاستها تأسرك بأسلوبها الصقيل، يفهمها كل قارئ، لا يشبع من كلمات الرجل المثقف النخبوي ولا تغيب عنا معشر عوام القراء.

أما عن مضمون الكتابة فتلك قصة أخرى اسألوا عنها العبيد في سلاسلهم يجيبونك أن تلك الحروف هي التي كانت تضع عنهم أسرهم والأغلال التي كانت عليهم من طرف عتاة الأسياد والأسياد السابقين، تعرف الأمة جابه الل الرجل بكلماته وتعرفه حنه بنت سالم ويعرف العبد سعيد من هو محمد فال ولد سيدي ميله.

وفاء الرجل لأمه الصحراء لا يدركه إلا من سافر معه حيث يصمد الصحراويون  في محنة ارادوا لها أن تنتهي فقيض الله له قلما يأبى الانكسار .. أجل لقد عق بعض أبناء الصحراء أمهم فكان البررة قلة وكانت لوحات ولد سيدي ميله ترسم في ريشة خالدة ما عجز عنه الفنانون التشكيليون تلك حروف من الصحراء الثقيلة تقول "..الصحراء الغربية؛ حيث يتعانق صبر أيوب مع مأساة يوسف، وحيث الشجاعة أكسجين الحياة، وحيث التراث صفحة تفتأ تـبْـهارّ كلما ادلهمّ ليل مثيلاتها. عن أي صحراء سأتحدث إن لم تكن الصحراء الغربية؛ حيث الثورة ترنيمة تتغنى بها الأودية والمغارات، وحيث الصمود رنة من آلاء الخلود..."

وحين ودع المشظوفي دنيا الإقطاع فاضت دموع الكاتب وتقاطرت على قرطاس لتكتب حروفا تلخص وضعية الطبقة العمالية المحرومة "الآن وقد وارى الأحبة جثمانه في أحراش إينشيري، أضحى بإمكان المشظوفي أن يفهم، في إغفاءته الأبدية المريحة، أن القاضي والطبيب والحرسي والهراوة والذهب والنحاس، عصابة لا يهمها أن تفهم كم هي ثمينة لديه أحلام الحياة المفعمة بهدايا الخلاخل والأقراط..." 

يا قومي صدقوني سافرت مع صاحب هذه السطور فرأيت الكاتب المنسي الذي لا يعلم عنه الكثير ورأيت التواضع في الرجل كان يصنع لي الشاي بنفسه ونحن في ضيافة الصحراويين، ورأيت الرئيس الصحراوي ينحني إجلالا وتقديرا لشخص عزرهم ونصرهم وقت الشدة في زمن كان الكتاب يتساقطون تباعا طمعا في دراهم الملوك والسلاطين.

وإلى أن ألتقي مع رفيقي في الصحراء محمد فال ولد سيدي ميله تحية إعجاب ومودة  أبعثها لك أيها الكاتب المنسي يا من علمتني أن التاريخ سيكون حليفا للمظلومين مهما طال الانتظار. 

 

مختار بابتاح 

اقرأ أيضا