أكتب هذه الكلمات وأنا أحاول جاهدا أن أمسك دموعي رغم مضي ايام على المصيبة ، أكتبها بقلب حزين محترق لكنه راض بقضاء الله وقدره، أكتب هذه الشذرات ولن أكتب ما يغضب الله فيا رباه إن كنت تعلم كم ترك لنا محمد من فراغ وإن كنت تعلم كم سالت عليه من دموع وكم حزن عليه من قلب أعد لنا ما أعددت للمحتسبين الصابرين.
حقا أيامنا هذه دول، أيامنا وليالينا كلها حبلى بالمفاجآت لا تستقيم الحياة على حال ولا تغرنّك أفراح الحياة وحفلات الاعياد (هي الأمور كما شاهدتها دول .. من سره زمن ساءته أزمان).
هكذا الدنيا أفراح تتبعها أتراح شموخ تعقبها أحزان " وتلك الأيام نداولها بين الناس".
أكثر نكد يواجهه المرء بنفسه في هذه الحياة وداع الأحبة، وداعهم المفاجئ و الأبدي إلى يوم الدين، قبل أيام كنت أفكر في هدية أهديها لأعز إخوتي الكبار محمد ولد بابتاح وأتساءل مع نفسي: هل أهدي له دراعة فاخرة قبل العيد؟ أم أهديه شاة وهو الذي يهدي لي الشاء بسخاء وكرم في كل مرة، كنت أفكر في كل شيء إلا أن أشتري له أمتارا من القماش الأبيض في محل بسوق بتلميت يكفن بها في وداعه الأخير فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه على سواه.
يمضي محمد ولد بابتاح إلى ربه رابط الجأش صابرا محتسبا يقول في لحظاته الأخيرة : من هذه الضجعة سأنتقل إلى مقبرة "اعكيلت حرمه" يقولها في صبر الرجال محسني الظن بالله، لحظات وتصعد روحه إلى باريها. فتسيل الدموع وتحزن القلوب في ذلك البيت وتلك الجماعة والقرى المجاورة بأكملها ، إمام قرية بولنوار قال بعد صلاة الظهر : اشهد الله وأشهدكم أن هذ الرجل ممن حسنت أخلاقهم، وأشهد الله أنه من المحسنين وله أياد بيضاء كبيرة في القرية.
إلى هنالك إلى تلك الأجداث في مقبرة "اعكيلت حرمه" يلتحق محمد بركب الراحلين وينضم إلى مواكب الأسلاف السابقين في تلك المقبرة حيث يرقد الوالد بابتاح وأختنا مريم والأعمام، وحيث يرقد العشرات من حفظة كتاب الله العزيز في تلك المقبرة المتنورة بجثامين الحفظة سالت دموع المشيعين على الضريح وهي تتذكر رجلا عرفوه في السراء والضراء، عرفوه بأخلاقه العالية، عرفوا خدماته لكل ضعيف مسكين، وارتفعت الأصوات حزنا على ذلك الجواد المترجل عن صهوته.
أما أنا فتذكرت مقولة البتول بضعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فاطمة وهي تقول : هل طاوعتكم انفسكم أن تحثوا التراب على جسد رسل الله صلى الله عليه وسلم ، حفنات من الرمل المبلل بالدموع على جسد رجل أقام معك في كل مراحل حياتك رجل ما دخلت أزمة من أزمات الحياة إلا ورأيت من يحلها لك بابتسامة عريضة.
أودعه ونفسي لا تطاوع، لكنه الرضى بالقدر المحتوم ، ألتفت إلى ضريحه في لحظات تلخص دموعي قصة ذكريات من الزمن الجميل لكنه انتهى وإلى لأبد.. أذكر الآن أيام الطفولة عندما كان يحملني على رأسه ونحن رحّل بين هذه الربوع، كنت اشتاق إليه حين كان يسافر إلى السنغال وأنتظر بشوق هداياه وتحفه التي يقدم لي .. أذكر ايام مراهقتي في المرحلة الإعدادية عندما كنت أقطن معه في محل بعرفات، وأخيرا أيام شبابي وسنواتي الأخيرة عندما كان في كل فترة يحسن علي في كل شيء.
برحيل محمد سيحزن الضعفاء كثيرا، سوف تتذكر عدة عائلات من الأيتام رجلا منفقا سخيا ومستمرا، سوف تذكره الأرامل بشياه تخفى في جنح الليل وإطعام مستمر لا تعلم يمين صاحبه ما تنفق شماله، سوف تبكيه عائلات فقيرة في بولنوار والطيب وبير السعادة سوف تتذكره بحزن وألم وحرقة أسر غريبة أوطان قادمة من أزواد، وقبل ذلك وبعد سوف تتركه عائلاتنا بكل أجزائها بأخلاقه وإنفاقه.
لم يترك أخونا المسالم محمد ولد بابتاح من هذه الدنيا سوى غنيمات يتتبع بها عشب الصحراء، وقد حولها في السنوات الأخيرة إلى باب من أبواب البر وصدقات توزع في مواسم الخير مثل رمضان والاضاحي فاللهم إن كنت تعلم كم نحر محمد من الشياه للضعفاء والفقراء فارحمه وأعد له ما أعددت للمنفقين في سبيلك المحسنين إلى فقرائك.
إليك في مرقدك الابدي أقول أبشر بجوار رب رحيم لا يضيع أجر المحسنين.
اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيرا منها.