لا يمكن لأي شخص من سكان ولاية الحوض الشرقي إلا أن يرحب بكل من يقطع تلك المسافات الطويلة للوصول إلى ذلك الركن البعيد والأقل حظوة بدون منازع فتلك خطوة تحمل في طياتها بكل تأكيد الكثير من معاني الحب والشوق والتقدير للذين لم تحملهم عذوبة العيش ومغريات الحضارة المادية الحديثة على التخلي عن أصالتهم وأرضهم.
ولا يمكن لأحد من سكان مقاطعة ولاته على وجه الخصوص ألا يرحب بالوفد الرئاسي الرفيع وبالضيوف الأجانب الذين قدموا إلى المدينة لكي يعيدوا الحياة إليها ولو لفترة قصيرة من الزمن تشبه الحلم. ولا شك أن المهرجان من هذه الزاوية يجسد قيمة ثقافية ورمزية لا غبار عليها. ولا مناص من الاعتراف أيضا بجهود الرئيس محمد ولد عبد العزيز ونواياه الحسنة تجاه الولاية وهو الذي خصها بأعظم مشروع في تاريخها حتى الآن ويتعلق الأمر بمشروع بحيرة الظهر وما ينتظر أن ينتج عنه من نتائج اقتصادية عظيمة في المستقبل. ولا بد أيضا من الاعتراف بالمجهود الذي بذلته الحكومة في بناء شبكة الطرق لغرض فك العزلة عن أغلب مقاطعات الولاية المترامية الأطراف ومقاطعاتها الست باستثناء ولاته وانبيكت لحواش، وفي بناء مصنع للألبان حتى وإن كانت النوايا الطيبة من وراء إنشائه أفضل بكثير من مزاياه الاقتصادية الفعلية حتى الآن؛ ينضاف إلى ذلك بناء مستشفى جهوي كبير بعاصمة الولاية لا يزال العمل فيه جاريا و لا يزال السكان ينتظرونه بفارغ الصبر وأمس الحاجة. لكن هذه الإنجازات كلها لا تكاد تظهر نظرا لاتساع المنطقة وبعدها جغرافيا عن المركز وكثافتها من الناحية الديمغرافية واستفحال التهميش فيها وعمق المعاناة واستمرارها لعقود طويلة.
صحيح أن المهرجانات الثقافية ظاهرة معروفة ومنتشرة في جميع دول العالم وهي وسيلتها لعرض منتوجها الثقافي المادي وغير المادي وتسويقه لكنها تكون دائما مسبوقة بصناعة ذلك المنتوج أولا وتهيئته بخلق البنية التحتية الملائمة لتسويقه بشكل مناسب وبعائد أكبر وإلا تحول المهرجان إلى دعوة للضيوف الأجانب ليشهدوا على سوءاتنا وليشهدوا على تقصيرنا في صيانة موروثنا الثقافي.
فما الذي يبقى للولاتيين بعد أن ينصرف الجميع وبعد رحيل الأحبة ؟ ذلك هو السؤال الصحيح الذي قلما طرحناه على أنفسنا ولعل التحديد الدقيق للقيمة الحقيقية لطرفي المعادلة التالية : س – ص = ؟ يساعدنا في تحديد القيمة الفعلية للمهرجان الذي ينعقد حاليا في تلك المدينة التاريخية.
□ س- كلفة انتقال عشرات الموظفين الحكوميين السامين (وزراء ورؤساء مؤسسات عمومية وخدمية مهمة) وتركهم لوظائفهم لمدة أسبوع كامل على الأقل+ كلفة انتقال الرئيس والوفد رفيع المستوى المرافق له + تكاليف إقامة وضيافة وتنقل الوفد الرئاسي أثناء المهرجان+ الكلفة الأمنية والعسكرية العامة (استنفار كتائب عسكرية كاملة من الأمن الرئاسي وبعض المناطق العسكرية في الداخل بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية المختلفة)+ التعويض عن السفر المدفوع من خزينة الدولة للموظفين الرسميين + انتقال المئات من المواطنين على بعد أكثر من 1200 كلم منها حوالي 100 كلم غير معبدة + تكاليف نقل خارجي وداخلي وإقامة لمشاركين من دول أجنبية + تكاليف النقل والإقامة والتعويض المادي للفرق الفنية التي استقدمت من دول عديدة + تكاليف الضيافة والإقامة والتعويض المادي للفرق الفنية المحلية + كلفة الحفلات الموسيقية والسهرات + كلفة الأنشطة الرياضية والثقافية المصاحبة (المحاضرات،الرماية،الفروسية، سباق الهجن…) + كلفة الوقود لمئات السيارات الحكومية والخصوصية لمئات الكيلومترات وعلى مدى أسبوع كامل على الأقل+ كلفة الملابس الجديدة الفاخرة لمعظم المشاركين + تكاليف الضيافة غير الرسمية + التغطية الصحية للمشاركين + تكاليف التغطية الإعلامية (النقل التلفزيوني المباشر وغير ذلك)…إلخ
□ ص- مد أنابيب على مسافة 50 كلم تقريبا لسد حاجيات المدينة الماسة من الماء انطلاقا من أقرب مصدر في شبكة مياه الظهر + حوالي 90 كلم تقريبا من الإسفلت + طباعة عشر مؤلفات فقط من الكتب المخطوطة المعرضة للضياع + بناء مركز لجمع المخطوطات وصيانتها على غرار مركز أحمد بابا التمبكتي في شقيقتها التاريخية تومبكتو بمالي + بناء متحف صغير بالمدينة لحفظ تراث الجهة + فندق لائق لاستقبال السياح الأجانب وكبار الضيوف + صناعة أدوات للزخرفة والفن الولاتي (ملصقات وأدوات بلاستيكية بسيطة تختزل رتابة العمل اليدوي وصعوبته)+ وصناعة المواد المستعملة في الطلاء والزخرفة + بعث مشروع وطني بديل عن المشروع الإسباني الرائد للزراعة ودعم التعاونيات الزراعية الصغيرة والذي أعاد الحياة بشكل جوهري إلى المدينة في العقود الماضية وجعلها مركزا لتصدير المنتجات الزراعية إلى عاصمة الولاية وبعض المقاطعات قبل أن تعبث به أيادي الفساد وانعدام المسؤولية مثلما عبثت بنظيره في مزارع انواكشوط الشمالية وغيرها + تثمين النظام الغذائي المميز للولاتيين وتسجيل الأطباق الولاتية مثل: “دقنو” “سنگتي” و”مگوري”و”المون” و”ديْديْ”و”شربة الحمام المتبل”… إلخ في الملكية الفكرية لدى اليونسكو وجعلها مثل العمارة وتقنيات الزخرف الداخلي لمدينة ولاته رمزا لأصالتنا وهويتنا الحضارية وفرضها نموذجا في الواجهات السياحية في المطار وفي الموانئ وفي الفنادق وفي مداخل المدن+ أمور أخرى كثيرة.
السؤال هو باختصار: س- ص = ؟ سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى فكر هادئ مسؤول.