تستقبل الشعوب العربية و المسلمة في أنحاء المعمورة شهر رمضان الكريم بكثير من التلهف والفرح، فهو شهر الرحمة والمغفرة من الله والعفو والمصالحة بين الناس والتنافس على العمل الخيري، كما يذكّر الشهر الكريم ببطولات خالدة سطرها المسلمون عبر تاريخهم بدء بمعركة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون على جيش قريش، مرورا بمعركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص وانتهاء بمعركة حطين بقيادة صلاح الدين ومعركة عين جالوت بقيادة السلطان قطزز ، وفي العصر الحديث يتذكر المصريون في كل رمضان معركة 6 اكتوبر 1973 الموافق 10 رمضان 1393 التي انتصرت فيها القوات المصرية على الجيش الإسرائيلي وتجاوزت خط برليف.
أما في الدولة الموريتانية الفتية فإن شهر رمضان لا يذكر بأحداث إيجابية غيرت التاريخ فلم نجد في أرشيف قواتنا المسلحة ما يذكر بمعركة خالدة من المعارك الوطنية، فلا حرب الصحراء (أكبر حرب خاضتها موريتانيا في تاريخها) تذكر بمعركة رمضانية واحدة تسجل في انتصارات القوات المسلحة، كما لم يسجل شهر رمضان خلال العقد الأخير ايا من الغارات التي شنها الجيش الموريتاني ضد القاعدة وأخواتها في الشمال المالي وإن كانت عملية "تورين" ضد حامية موريتانية وقعت في شهر رمضان من العام 2008 أو تفجيير لأحد الانتحاريين في رمضان 2010 لكن جيشنا لم يكن الظافر في هذه المعركة وبالتالي لم يتم تخليد هذه البطولات له، بل تسجل في "مآسي رمضان" التي سنتحدث عن بعضها عند الموريتانيين في هذا الملف، وهي مجرد أمثلة يتذكرها كل موريتاني بشيء من الحسرة والاسى ذلك أن الحديث عنها هو حديث عن دماء زكية سالت في رمضان، وأحداث سياسية يصنفها البعض بالمؤامرات، وتهجير مواطنين من بلادهم إلى غير رجعة.
رمضان 89 .. شهداء الأحداث العرقية
لئن كان الكثير منا ينسى الأحداث العرقية نهاية الثمانينات فإن الضحايا وأهاليهم ما زالوا يتذكرون رمضان من العام نفسه فلم يكن الشهر الكريم في العام 1989م شهر الرحمة بين أبناء هذا الشعب أو لنقل بين أبناء الشعبين الموريتاني والسنغالي، فقد كان فرصة لنهب المحلات والسطو في الشوارع وسيل الدماء في وضع النهار، ففي صبيحة أحد أيام رمضان المبارك وبينما المواطنون في أجواء الشهر الكريم إذ غصت شوارع نواكشوط بمظاهرات مناوئة للزنوج و قامت بعض العصابات بمهاجمة منازل الزنوج الأفارقة بحثا عن مواطنين سنغاليين وعندما يعثرون على سنغالي أو من تربطه بهم علاقة يقومون بضربه حتى الموت.
وعلى الجانب الآخر من ضفة النهر كانت السنغال تشهد نفس الأحداث الدامية حيث كانت الأحداث موجهة بشكل خاص للبيظان.
وحسب بعض الحقوقيين فإن أحداث رمضان الدامية لم تكن موجهة ضد السنغاليين في موريتانيا، وإنما كانت ضد كل زنجي حيث انحرفت عن مسارها بين شعبين شقيقين إلى أحداث دامية بين عرقين تعايشا لسنوات في هذه الربوع هما العرق العربي والعرق الزنجي بمختلف أطيافه (الفلان ـ الوولف ـ السونوكي).
كان شهرا حزينا يقض مضجع كل مواطن ويؤرق شعبا يعيش في هلع مستمر خاصة إذا تعلق الأمر بمن ينتسبون إلى فئة الزنوج، يذكر أحد الشهود أن عشرات المواطنين قتلوا في الشوارع ورحلوا وهم صائمين في وضح النهار. أما بقية سكان الأرياف فكانت تعيش في كوابيس طيلة شهر الصيام يتساءلون عن مصير أبنائهم في السنغال الذي يعيشون تحت رحمة عصابات السطو العنصري والتصفيات العرقية بعد أن تمت إبادة العشرات منهم في محلاتهم فكان حديث الركبان في الصحراء خلال شهر رمضان على النحو التالي:
ـ هل تجاوز التجار ضفة نهر؟ ومن أخبركم بمصيرهم؟ وهل وصلوا إلى سد "جاما"؟ وما هي آخر الأخبار الواردة من انواكشوط والسنغال عن مصير أبنائنا المسفرين؟
واستمر الوضع شهر رمضان كاملا وأشهرا بعده قبل أن يقرر البلدان موريتانيا والسنغال ترحيل رعاياهما، فقام السنغال بترحيل البيظان المقيمين على أراضيه بما في ذلك البيظان السنغاليين، وقامت موريتانيا بترحيل السنغاليين إلى بلادهم، لكن الترحيل أيضا شمل عددا كبيرا من الزنوج الأفارقة الموريتانيين (موظفين، عمال، تجار، قرويون في الغالب) متهمين بأنهم سنغاليون.
هي أحداث خلدها رمضان كانت الأولى من نوعها في تاريخ البلاد فهي أول حرب بين شعبين وفئتين تعايشا عبر التاريخ، وستكون لنتائجها توتر في العلاقات بين البلدين وعدم ثقة بين الحكومتين وستدفع موريتانيا خلالها أثمانا باهظة قبل أن تعود المياه إلى مجاريها الطبيعية وتعود العلاقات الودية بين البلدين تدريجيا نهاية التسعينات.
رئاسيات 2003 .. حملات انتخابية في التراويح
في العام 2003 حل شهر رمضان المبارك على الموريتانيين وهم في آخر حملة رئاسيية في عهد ولد الطايع تنافس على مقعد الرئاسة بين ستة مرشحين هم الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع ومحمد خونه ولد هيداله وأحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير ومولاي الحسن ولد اجيد وعائشة بنت جدان.
جرت انتخابات رمضان في ظروف يطبعها التوتر فالبلاد في جرح لم يلتئم وهو مخلفات انقلاب دموي نفذته كتيبة من الجيش الموريتاني يقودها الرائد صالح ولد حننا قبل أشهر من رمضان، كما جاءت الانتخابات بعد أشهر قليلة من حملة اعتقاالات واسعة ضد التيار الإسلامي وأئمته وقادته.
حل شهر رمضان الكريم مع تغيرات في المشهد السياسي الموريتاني بأكمله فالإسلاميون مؤسسو تكتل القوى الديمقراطية وحلفاء ولد دداه خرجوا من يافطة التكتل وأعلنوا دعمهم للمرشح محمد خونه ولد هيداله بتوقيع من مرجعيتهم الروحية الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وإلى جانب الإسلاميين ظهر البعثيون في صف محمد خونه ولد هيداله بقيادة محمد يحظيه ولد ابريد الليل واسماعيل ولد اعمر المدير العام للحملة.
أما أحمد ولد دداه فقد خاض حملة رمضان بمجموعة من نخبة التكتل يقودهم محمد محمود ولد أمات ومحمد محمود ولد ودادي، فيما حظي مسعود ولد بلخير بدعم تحالف الناصريين وبقايا من مجموعة "الحر".
لتتحول أجواء رمضان ولياليه إلى أجواء الحملة الرئاسية الصاخبة ويسمع بعض الأئمة يدعون صراحة على المنابر لنصرة مرشح بشائر التغيير محمد خونه ولد هيداله وتظهر فتاوى رمضانية على التلفزيون الرسمي تحرم الخروج على السلطان ووجوب طاعة ولي الأمر.
كان شهرا مشحونا بالحملات والدعاية الانتخابية ذات الطابع الديني ففقهاء معاوية يكثفون حملاتهم في التلفزيون الرسمي أما "فقهاء هيداله" فهم يدعون الله في صلوات التراويح يقول أحد المشاركين في حملة هيداله : كنا نصلي التراويح مع أحد الأئمة فلما بلغ القنوت قال "اللهم إن تهلك هذه العصابة المؤمنة فلن تعبد في أرضك بعد اليوم، اللهم أرحنا من ولد الطايع وزمرته.."
وتمضي أيام الحملة حتى يعلن عن فوز المرشح معاوية ولد سيدي أحمد الطايع بنسة 67 في المائة تقريبا فيما حصل المرشح محمد خونه ولد هيداله على 18 بالمائة وأحمد ولد داداه على 6 في المائة ومسعود أربعة في المائة.
لكن مفاجأة رمضان كانت في اعتقال أقوى المتنافسين لولد الطايع وهو المرشح محمد خونه ولد هيداله بتهمة الحصول على وثيقة تحمل العنوان "غراب 1" وتتحدث عن خطة لانتزاع السلطة عبر عصيان مدني في حال فوز ولد لطايع بطريقة ترى المعارضة انها اعتمدت التزوير.
وقد وجهت لمحمد خونه التهمة إلى جانب مجموعة من رجاله من أبرزهم اسماعيل ولد اعمر وحابه ولد محمد فال واعلي ولد اصنيبه ودفالي ولد الشين.
وانتهى شهر رمضان المبارك في العام 2003 مسجلا في صفحاته آخر انتخابات رئاسية في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع فعاش سنتين في الحكم من الاضطرابات ومحاولات الانقلاب قبل أن تنقلب عليه مجموعة من الضباط بقياة العقيد اعلي ولد محمد فال عام 2005.
ولد صلاحي .. قصة إفطار أخير في حضن الأم
الزمان شهر رمضان عام 2001 المكان حي شعبي في بوحديده، هي ليلة ليلاء من ليالي شهر الرحمة والصفح والغفران رمضان الكريم، ليلة ستتبخر فيها آمال السيدة مريم بنت الوديعة من بين يديها إلى أبد الآبدين، فبينا هي في سعادة مع فلذة كبدها محمد ولد صلاحي الذي تناول معها الإفطار وصلى بها التراويح في منزل متواضع إذا بأحد عناصر الشرطة يطرق الباب طرقا ثم يأخذ الابن مطمئنها أنه سيعود لها وقت العشاء ولم تكن تدري أن ذلك العشاء سوف يطول انتظاره سنين، وسوف تمضي السنوات والوالدة تغسل ثياب ابنها كل جمعة ظنت أنه في إدارة الأمن الموريتاني بعد التطمينات التي يقدمها مدير الأمن السابق دداهي ولد عبد الله، و لكن الحقائق ستنكشف بعد ذلك عبر المنظمات الإنسانية أن ولد صلاحي تم ترحيله من انواكشوط في شهر رمضان إلى عمان ومنها إلى قاعدة باغرام فقاعدة اغوانتنامو الأمريكية التي استقر فيها المهندس منذ العام 2002 وحتى اليوم.
ويكتب ضحية اختطاف رمضان محمدو ولد صلاحي في مذكراته "كانت البداية في 20 نوفمبر 2001 حين خرج محمد ولد صلاحي من منزل أسرته بضواحي انواكشوط، وتوجه بصورة طوعية إلي الشرطة الموريتانية مشهرا براءته وآملا في مساءلة عادلة من أمن موريتانيا مسقط رأسه... لكن الأحداث تسارعت وفي ظرف اسبوع وبطلب ملح من السلطات الأمريكية أخذ ولد صلاحي على عجل إلي طائرة أمريكية حطت بمطار انواكشوط، وداخلها لف رأسه وعصبت عيناه ووضعت له حفاظة وخدر ليجد نفسه في اليوم الثاني بمركز أمني بضواحي عمان تديره الأجهزة الأمريكية... ويعيد ولد صلاحي أسباب إرساله للأردن إلي انه كان أقام بها وبكندا في فترات سابقة للدراسة، وتم استجوابه في الأردن حول علاقة محتملة بما عرف "بمؤامرة الملينوم" التي كانت مشروع تفجيرات محبط من تدبير الكندي احمد رسام استهدف تفجير قنبلة في مطار لوس أنجلوس الدولي يوم 31 ديسمبر 1999م ورغم تبرئة ساحة ولد صلاحي من هذه القضية تسلمته الاستخبارات المركزية الأمريكية من جديد يوم 19 يوليو 2002م ونقلته جوا في ظروف تخدير إلي قاعدة "بأغرام" الأفغانية. ونتوقف عند بعض تفاصيل رواية ولد صلاحي لصنوف تعذيب سجن "بأغرام".
يقول ولد صلاحي: كان يمنع علينا التحدث بعضنا إلي بعض وكنا نكتفي بتبادل النظرات وكانت الأيدي والأرجل موثقة والبراقع الحمراء جاهزة لسدل عتمة الظلم على رؤوسنا، وشاهدت عديد السجناء يغيبون عن الوعي بعد حلقات تعليق بالأيدي والأرجل في قضبان حديدية... وكان السجناء يهذون في حلقات التعذيب المعلق قبل الغيبوبة مما يدفع الجلادين إلى مضاعفة التعذيب املا في الحصول على اعترافات…..".
خاتمة رمضانية
هذه بعض الذكريات الرمضانية في وطن ما زال يقف عند باب التاريخ الواسع، وطن يتذكر رمضان بكثير من الحزن وهي فرصة لأن يقف أبناؤه بمختلف مكوناتهم في هذا الشهر الكريم ويعلنوها مصالحة وطنية وصفحا عن أحداث الماضي ومحاولة نسيانها إلى الأبد واستبدالها بأحداث رمضانية إيجابية في شهر يرتبط عند كل مسلم بالبطولات والانتصارات التاريخية على العدو بدل الخيانة والمؤامرات السياسية.
مختار بابتاح