أمضى الرئيس السنغالي الأسبق عبدو ضيوف، أكثر من عشرين عاما في كنف معلمه وملهمه الروحي، ليوبولد سيدار سنغور، ينهل من ذلك المعين الزاخر بالثقافة والسياسة والأدب والحكمة،
ولم يبخل فيلسوف "الزنوجةLa négritude " وشاعرها الكبير سنغور، الذي ورث عن "بلاد التيرانجا"، خصوبة الأرض وسخاء أهلها الذي لا ينضب، على تلميذه عبدو ضيوف بشيء قط:
أصبح "ضيوف" واليا وهو في السادسة والعشرين من عمره ووزيرا أمينا عاما للحكومة وهو في السابعة والعشرين ثم وزيرا أول وهو في الرابعة والثلاثين، وأخيرا رئيسا لجمهورية السنغال وهو في الخامسة والأربعين من عمره،
حين سئل أحد السياسيين السنغاليين وقتها، عن السر وراء السرعة الهائلة التي تسلق بها عبدو ضيوف المناصب، رد ممازحا: "لا تستغربوا الأمر، فالرجل يمتلك محركا بقوة 100 حصان، من ماركة تدعى سنغور"،
لقد أبصر سنغور في ذلك الشاب الطموح والكتوم، صاحب القامة الطويلة والملامح الحادة والنظرات الثاقبة، صورة الابن البار والخليفة المؤتمن، والفتى "السنغوري" المخلص حتى نهايات أصابعه، الذي سيحافظ على إرثه السياسي ويواصل نهجه من بعده،
لكن قصر الجمهورية العتيق، المنتصب على رابية في حي "البلاتو" الراقي بدكار، سيكون شاهدا على قصة أخرى، بتفاصيل مختلفة:
إذ لم تكد تمضي فترة قصيرة على مغادرة سنغور الطوعية للسلطة، وحبر استقالته لما يجف بعد وآثار أقدامه ما تزال منغرسة في البساط الأحمر وسمرة أشعاره وأزجاله تلون المكان، حتى ضاق عبدو ضيوف ذرعا، بتدخلات سنغور ودور "الرئيس عن بعد "، الذي أصبح الرجل يلعبه ويستمتع به، وشبحه الذي بقي مخيما على أدق تفاصيل قصر الجمهورية،
سيشرع عبدو ضيوف في حملة ناعمة لاجتثاث "السنغورية" و"السنغوريين"، وسيرسل البقية الباقية من رجالات سنغور، الواحد تلو الآخر، إلى بيوتهم، داخل سيارات فارهة مظللة النوافذ، مصحوبين بشهادات تقدير مزخرفة و"مبروزة" بعناية فائقة، تثني على الخدمات الجليلة التي قدموها للوطن،
يروى أنه ذات مرة، اقترح سنغور على الرئيس عبدو ضيوف، اسما معينا لرئاسة الوزارة، لكن "ضيوف" اختار شخصا آخر ليتولى ذلك المنصب، ثم أسر إلى أحد معاونيه، بأن الاسم الذي اقترحه سنغور، كان الأفضل، لكنه أراد أن يثبت للعجوز بأنه هو، أي عبدو ضيوف، الرئيس الوحيد للسنغال،
وتروي حادثة أخرى، أن قياديا في الحزب، طلب إرسال الطائرة الرئاسية لتقل سنغور وزوجته، في إحدى رحلاتهما، لكن عبدو ضيوف اكتفى بإعطاء الأمر بقص تذكرتين على الدرجة الأولى باسم الرئيس السابق وحرمه، ورد على ذلك القيادي، بأن مقاعد الطائرة الرئاسية مثلها مثل ذلك الكرسي الموجود في المكتب الرئاسي، لا تتسع لأكثر من رئيس واحد،
أدرك العجوز الحكيم أن التلميذ النجيب والفتى السنغوري المخلص، الذي خلفه وراءه في دكار، اشتد عوده ولم يعد يقبل الوصاية من أحد، فنأى بنفسه عن التدخل في يوميات قصر الجمهورية بدكار، واكتفى بمتابعة أخبار الوطن عن بعد، عبر الصحف والمجلات التي كانت تصله في منفاه الاختياري،
سيمضى سنغور شيخوخة رتيبة ومريحة، في حضن بلدة فيرسون الوادعة والهادئة في منطقة النورماندي، شمال غرب فرنسا، يقضي خلالها جل وقته، في كتابة الأشعار العذبة والاعتناء بحديقة المنزل العائلي لزوجته، وستظل السيدة كوليت هوبيرت سنغور بجانبه، ترعاه وتحيطه بحنانها الدافق، وترافقه بلطف داخل الممرات الأخيرة إلى الموت، وتسند بإخلاص كبير ضعفه وخوفه، حتى فجر يوم الخميس 20 دجمبر 2001، حين رحل الرجل عن هذه الدنيا، عن عمر ناهز الخامسة والتسعين،
وأما عبدو ضيوف، فسيحكم السنغال بطريقته هو الخالصة، لا بتلك التي كان سنغور يرغب في أن يحكم بها، وسيظل لتسعة عشر عاما طويلة، هو وحده الآمر الناهي وسيد قصر الجمهورية بدكار، وفي المرات النادرة، التي كان فيها "ضيوف" يتحدث في مجالسه الخاصة، عن "ولي نعمته" سنغور، كان يصفه دائما بـ: "صديقنا الرئيس السابق".
"الأبيض لا يستطيع البتة أن يكون أسودا، لأن السواد هو الحكمة والجمال"، ليوبولد سيدار سنغور...