كيفما ستتشكل من جديد الساحة السياسية فإن الأمر سيكون بحق إيجابيا ليرفع من مصداقية الدولة و لتشهد به صحة البلد السياسية المعتلة منذ أزيد من نصف قرن من التعاطي تحسنا مضطردا و ترتسم به كذلك في الأفق القاتم بوادرُ أمل جديد يحيي موات المطالب المشروعة
لروح كيان الوطن و لكل شرائح المجتمع المدفونة تحت أكوام الإخفاقات و الإحباط المزمن الذي كبل بالأصفاد كل إرادة البناء و قيض كل سعي إليه.
وكيفما ستتوزع اهتمامات الخارطة السياسية الجديد من منطلق المعتقدات الفكرية و القدرات على سبر نقاط الواقع القوية و استشراف المستقبل الزاهي فإنما سيكون كل ٍذلك أيضا لحساب حتمية التحول و ضرورة التغيير اللذين لا مناص منها في سجل منطقية الأمور أيا كانت المعطيات على الأرض و مهما كانت درجة جمود العقليات و تمنع الذهنيات الطائشة عن السير في قافلة اللا وهن و اللا انتظار.
إنه تحول قد اختلطت بوادره القوية مع ضبابية المسلك السياسي العام الذي أفرزته نهاية الاستحقاقات الرئاسية للـ21 من يونيو 2014 التي طُويت صفحتها منذ أيام و ما زالت مع ذلك حرارتها حارقة، فاستحالت قراءة مشهدها النهائي بجلاء ليقيم لما بعدها من قواعد تأسيس مسار ديمقراطي جديد.
و لن يُصاغ إيجابيا هذا التحول لن إلا بما سيكون من ظهور قوي و ناجع لفاعلين جدد على أسس ديمقراطية مكينة و اعتبار مقاييس العمر و تجدد الرؤى والقناعات والتأويلات والتوجهات وأدوات الخطاب المقنع المتقن والعمل الميداني ووسائل الترجمة إلى لغة الانجاز الملموس و الراسخ على أرض الواقع و زمام المبادة و الصرامة و الحزم و هجر المفاهيم الرجعية و المعاملات الإقطاعية التي ما زالت تستوطن جل مساحة الإرادة المجتمعية؛ و هي المفاهيم وحدها التي رسخت الترحال و الانتجاع السياسيين.
و تجدر الإشارة بهذا الصدد و في أية عملية تجديد للطبقة السياسية أن يُنزع إلى الإقصاء من دوائر القيادات الجديدة مثل هؤلاء الذين اشتركوا في هز أركان كل الأطر التي انتموا لها بما استسهلوا من هذا الانتجاع بحثا غرضيا و دنيئاعن الريادة المنفصمة عن محطة الوعي السياسي الثابتة في مدار القيم الديمقراطية العالية. إنهم بجرأتهم على التحول و سرعة تحللهم من مستلزمات و ضوابط الوعي السياسي الرصين و سهولة ولائهم و قرب انسحابهم، هم من ميعوا حقل السياسة و حولوا حماها إلى برص مضاربات الولاءات و المؤامرات و الانتماءات، و جعلوا أعزة أهله أذلة ليدفنوا من بعد ذلك ثقة المواطن مع أوحال الإخفاقات و بعد السياسة عن همه و شأن رفعة الوطن.
و ليست ردود الفعل الخجولة التي أعقبت الانتخابات الرئاسية - رغم حدة ما تحمله دفينا في طياتها من مرارة الإحباط و وقع الانكسار- التي أبانت بها الجهات المترشحة و أفصحت عنها تلك المقاطعة كل بمقتضيات و أجندة مختلفة في الزمان و المكان و كذا بالشكل و المضمون في تفاوت لا يكاد يخفى، لم تكن إذا ردود الفعل كما أسلفنا إلا رجعا ناطقا وجد في اتساع التصدعات التي تُقطع أوصال الجسم السياسي منذ أمد منفذا إلى التعبير عن حالة الإخفاق العامة في قيام الدولة المركزية السوية و ثبات مؤسساتها السياسية و وضع الأمور المترتبة على ذلك في نصابها و هي المتمثلة في ضرورة إعادة قيام وعي سياسي افتقدت آثار بوادر له - ليس إلا – تشكلت في منتصف السبعينيات قبيل و مع اندلاع حرب الصحراء و ما تسببت فيه و ما أعقبها من الانقلابات العسكرية و الذي أسفرت عنه من تراجع في ذاك الوعي. و هو الإدراك الذي ساعد عليه ما كان من الانفتاح على حركات التحرر في العالم آنذاك و تشكل نظيراتها النضالية بكل طيف فكر الأمة إذ ذاك هو أيضا في البلد وتعبر عما كان حاصلا في تلك الفترة. و لم يكن يقدر أصحاب تلك "النواة" بأن أسباب تلك الوضعية البائسة أقوى، حتى ببعض الأحياء منهم، من أسوء و أشد زوابع التغيير. و هو الوعي الذي ظل وَهْما لا يخفى على المتأملين الممعنين في حيثيات التحولات ممن طالتهم عرضيا أيدي بعض الأحزاب السياسية التي تشكلت على أنقاض تلك الحركات، بما كانت تنطوي عليه هذه التشكيلات من إقطاعية الزعامة و انحسارية القيادة عندها في النرجسية التي لا تشرك في التصور أو الرأي أو الطرح أو القرار أيا كان بُعد المشرب الجمالي الفكري و المعقدي لهذه الزعامات و القيادات.
و هل هذا الوعي السياسي المفتقد عمدا أو في الأصل إلا الفهمَ العام للمناخ السياسي و ما يحركه من تجاذبات ومخطّطات من الفاعلين السياسيين داخل البلد أو حتى خارجه نظرا للترابط العالمي للأحداث؟
و هل لا يتعلق مفهوم "الوعي السياسي" بالأفراد والمنظمات والمجتمعات على حدّ سواء؟
ثم هل أن إنشاء الوعي السياسي لا يعني تكوين ضرب من ضروب التفكير الواعي بالراهن السياسي والحراك المطلبي في النطاق المحلي أو الإقليمي أو الدولي وجميع التصرفات السياسية الشعبية مثل الانتخابات و الترشح للانتخابات والقيام بالمظاهرات و تتزايد طرديا مع تزايد ما يسمّى "الوعي السياسي". أو ليس إذن بكل هذا أن الوعي هو القلب النابض للمكونات الحية للكيانات السياسية؟
و هل تراجع المعارضة المقاطعة في خضم هذه القراءة مواقفها و تلبس المرحلة القادمة حلة التجديد و التكيف مع الوضع الذي أفرزته الانتخابات الرئياسية التي جرت في 21 يونيو 2014 ثم تعمل على تمرير خطابها بمقتضيات و آليات تشرك قاعدة الشعب المؤيدة لها و تنصف الرأي الآخر حتى تؤسس لمعارضة متوازنة و أكثر من ضرورية لتقويم المعوج و توزيع خيرات البلد بعدالة لينجلي الفقر و تغيب الفوارق و تتشبع نفوس المواطنين بمفهوم الدولة و تتحول السياسة إلى وعاء يحتضن الخيرين من أبناء البلد الذين يحملون الوطن في وجدانهم و في جعبتهم مشاريع مجتمعية نبيلة و حلولا قوية و ملائمة لقضايا البلد و هموم مواطنيه.
و هل تجدد الأحزاب السياسية داخل الموالاة و المعارضة المحاورة في صميم تشكيلاتها و تعمد على بناء صرح وعيها السياسي الغائب بما يضمن التجديد المنشود و يخلق ديناميكية ملحة تقنع بأن العمل السياسي فيها سيكون أكثر عمقا و أكثر دلالة و انصع مشاركات في الواقع السياسي.
هي أسئلة تفرض نفسها في ظل التحولات السياسية المتلاحقة بحلوها و مرها و في دائرة الحسابات التي تمليها هذه التحولات العميقة في كيان البلد السياسي و تفرضها سنة التحول الزاحفة على مطلق مفاهيم الحكم في العالم و المعتمدة على ما يجنيه كل بلد من وعي طبقته السياسية، بات وحده ربان سفينة أي بلد يراد لها أن تمخر عباب بحر العراقيل التي تعترض مسيرة بناء الكيان الثابت إلى بر الأمان .