ذات عام دراسي كنت في السنة الأولى إعدادية، و كنت بحكم موقعي أسفل الطبقة الإعدادية خجولا جدا و مما زاد الطين بلة سذاجتي المرتفعة فكنت أصدق ما لا يقبله عقل و أسمع من كل من هب و دب لا يحكمني منطق و لا يقيدني خيال، فكنت أظن أن الناس مثلي جميعا: صادقون .. يخجولون من الإفتراء و الكذب و الإحتيال. لم تدم سذاجتي طويلا فدروس الحياة كفيلة بجعلها تتلاشى و تتبدد، كان أول درس لها: شاب كث اللحية حسن المنظر أوتي منطقا حسنا و بلاغة في الكلام و جهورية في الصوت و كاريزما رجل دين حقيقي، كان يلبس كما يلبس التبليغيون و يأتي للمسجد في جماعة منهم و يذهب في أخرى .. كان يتحف أهل المسجد بدروس و مواعظ يَذرف فيها الدموع و يتقطع فيها قلبه من البكاء، ماذا يبكيه؟ لا أعلم.
كان يؤثر في كثيرا و طالما حلمت أن كون مثله؛ شاب يتصدر المجالس في المساجد يقول الحق و لا يخاف في الله لومة لائم. لم أشك يوما في صدقه و صدق بكائه، و عرفت فيما بعد أنه كان استثناءا في قاعدة ابن الحسين: إذا اشتبكت دموع في عيون ---- تبيّن من بكى ممن تباكى!
استمر الحال فترة لا أتذكر كم هي بالضبط، وجاء درس الحياة الذي سينتشلني من غفلتى أو استغفالي إن كان التعبير أدق، و كانت الصدمة ..
مساء أحد الأيام كنت راجعا إلى البيت مع أحد إخوتي و في المنعطف الأخير و قرب محل طحن الحبوب القريب من منزلنا لمحته و قد لبس زيا آخر غير الذي كان يلبس في مسجد الحي؛ "عرف" طويل و سيجارة في اليد و فتاتان تضحكان بمجون و تلامس و تلاسن بعبارات غرامية و صديق آخر يبدو من سحنته التبتل طويلا في محاريب الفجور و الفسوق .. الغريب أنني لم أر شعر رأسه قبل ذلك اليوم لأنه كان يغطيه على الطريقة التبليغية .. صدمت فغضبت و زال عني الخجل(قد كان يمنعني الحياء من البكا --- و اليوم يمنعه البكا أن يمنعا) فسألته : أأنت فلان الذي يحاضر في مجسد الحي كل أسبوع ؟!! أأنت هو ؟؟ لم يكلف نفسه عناء إقناعي أو صدي بلطف أو حتى الكذب علي، بل رد بعبارات بذيئة زادت صدمتى أكثر و تذكرته و هو يقف قرب منبر مسجد الحي يَبكي و يُبكي الحاضرين، و تلك الدموع الغزيرة عرفت أنها دموع تماسيح ..
من يومها و أنا أشكك في كل شيء و كلما تقدم بي العمر نقصت عندي مصداقية أقوال الناس لصالح منطقي البسيط و في طريقي نحو الحقيقة تساقط عندي الكثير من الشيوخ و أصحاب اللحى الطويلة و صار انخداعي أصعب و الإحيال علي في أمور ديني أبعد من مسألة عرض أزياء و حسن مظهر ..
تذكرت هذه القصة و أنا أشاهد فيديو يتكلم فيه أحد ضحايا المحتال الرضا واستيقنت حقا أن المرء لن يموت حتى يرى من الدنيا العجب و ذلك حين رأيت كم التعاطف مع المحتال و إهمال المظلومين و الزج بهم في السجون و التنكيل بهم غداة التظاهر و المطالبة بالحقوق، كل هذا بمجرد أن هذا الظالم عارض أزياء دينية بارع في المناورة و اختيار الثياب و المشي بلباقة على المسرح .. أحيانا يكون سخيفا لكننا نتلقف السخافات و نصدقها كما فعل حين قال ذات "فوكال" إنه لم يعد يملك إلا ناقة أهداها له أحد الأشخاص و سيقضي الديون ببيع لبنها، .. سيدي لو ربحت من بيع لبنها 100.000 أوقية قديمة كل ليلة (و هو سابع المستحيلات) فهل تعرف كم من الوقت يكفيك لتقضي ال70 مليار أوقية ديون ؟ سيدي ستحتاج 1718 سنة لترجع كل الحقوق إلى أهلها، سينتظر اليتامى 17 قرنا من الزمن ليواصلوا حياتهم الكريمة و سينتظر المرضى مثل ذلك ليتعالجوا و يداووا، و ستتعطل المصالح ألف و سبعمئة سنة لكي تكمل لعبتك السخيفة، سنحتاج حينها جهازا لتجميد الزمن لأنه و بدونه سيموت جميع الدائنين، عليك أن تجعلهم يسيرون بسرعة الضوء لكي يتوقف عندهم الزمن كما تقول النظرية النسبية، لكن فيزياء الكم تقول أن هذا أيضا مستحيل فلو سار الجسم بسرعة الضوء صار ضوءا و الضوء لا كتلة له و الجسم له كتله و سيحتاج إلى طاقة لانهائية لكي يسير بهذه السرعة و ستواجهك بعد ذلك " مفارقة الجد" أو (grand father paradox) .. سيدي أظنهم سيموتون قبل هذه الفترة أنا متأكد من ذلك .. استخفاف و لعب بالعقول لا أقل و لا أكثر ..
كتبت هذا مع أني لم أتضرر منه و لم يتضرر منه أحد من العائلة، و لكنني واقف مع المظلومين حتى يُرفع عنهم الظلم و مع المغبونين حتى يزال عنهم الغبن.
من صفحة:
Zoubeir Ahmedou