".. رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون..
وها نحن نبحر،
كما كان أجدادنا يبحرون..
رحلنا رحلنا
وصادف يوم الرحيل
فجر طلوع
نجم الثريا
وكان من أيام
ردم النجوم.."
هكذا رحل الشاعر أحمدو ولد عبد القادر ذات فجر مغبّر كما كان اباؤه يرحلون، وهكذا يرحل أبناء هذا المنكب في تيه سرمدي ـ كما إيليا أبو ماضي ـ لا يعرف أحد من أين وإلى أين!! كتب الله عليهم أن يستمروا في تلك الرحلة اللانهائية..
نعم .. لقد أدركت الرحيل وعايشته في طفولتي.. رحلت على ظهور العيس في سراب الصحراء أسمع أطيط الرحال على مد البصر.. أرى النساء في هوادجهن وأرى الرجال يركضون في القافلة ويراقبونها عن بعد .. شددنا رحالنا مراتٍ تاركين أطلالا لم تتقادم إلى أماكن أخرى تحدثت الركبان أنها مظنة للكلأ نحط رحالنا وسرعان ما كان الرائد يكذب أهله بل هي منطقة جدباء جرداء فنحط رحالنا من جديد وهكذا تستر الرحلة .. طفولة راحلة مع حركة الزمن لا تجد فرصة للتعلق بالأرض أي أرض!!.
ثم كبرنا ـ معاشر الأطفال الرحّل ـ وتغيرت الحياة وشببنا وشبنا على هذا الرحيل، ونزلنا المدينة التي لم تكن سوى أحياء من "الترحيل" بدءا بترحال "الكبة" وانتهاء بترحيل "ابو ظبي" و"شارع المختار".
السياسيون أيضا رحل بطبيعتهم .. لا تفتر مطاياهم من الرحيل.. "كادحون" بدؤوا برحلتهم من معارضة راديكالية إلى مصالحة مع الرئيس المؤسس ثم مصالحة الرئيس اللاحق ومعارضته، و"قوميون" عجزت الذاكرة عن ضبط أطلالهم السياسية، و"إسلاميون" ضد معاوية وآخرون معه وأخيرا مع عزيز ثم ضده..
اليوم فصول الترحال من أطلال المعارضة الدرّس إلى هنالك حيث مظنة المرعى في "مرابع غزواني" هنالك وحيث تصب السحب صبا، تاركة خريفا أخضر، هنالك موسم الهجرة السياسية، وصل إلى تلك المرابع حتى اليوم يساريون وقوميون وإسلاميون وفي الطريق هناك من يشدون رحالهم نحو تلك المرابع..
قليلون هم أولائك الذين يصمدون في أطلال المعارضة وقليلون هم أولئك الذين يتعلقون بأرض عاشوا صيفها وقاوموا ريح سمومها الحارق..
إلى أولئك الذين نزلوا وينزلون تباعا في مرابع غزواني أقسم أنكم سترحلون قريبا وستبحثون عن رياض أخرى غير تلك الرياض.. فمتى يكون الرحيل من تلك الربوع وإلى أين؟؟