يتجدّد الحديث عن الحقبة الاستعمارية، سلبا وإيجابا، مع كل ذكرى للاستقلال، لكنه حديث مؤسف، لما يواكبه في كل مرّة من حملات مغرضة ضد هذا العالم أو ذاك، أو ضد تلك الأسرة أو هذه، والعبث، أحيانا، بالذاكرة الوطنية.
ويتناسى أولئك أن الذي ينال من عالم بعينه، هو تماما، كمن ينال من العلماء الآخرين، وذلك لأن حرمتهم واحدة، بل إن مواقفهم جميعا، وفق منظور التاريخ الكلي، كانت جزء من "الحدث الاستعماري" في إطاره الأوسع، أما الباقي فهو التلوينات المحلية والمواقف المختلفة.
بينما كان الأولى، أن يكون الحديث عن حقبة الاستعمار، وما جرى فيها، مدخلا لترميم الذاكرة الوطنية، وبروح علمية يحكمها الإنصاف والتوازن، والابتعاد عن القدح وأيضا عن الصبغة الزبونية والمديح المجاني.
يجب تحرير المفاهيم وتدقيق الاصطلاحات
لم تحدث في موريتانيا مقاومة بالمعنى العلمي لهذا المصطلح، وفق مباحث دراسات العنف والثورة المعروفة في الحقول الأكاديمية، لأن ردود الفعل الأوليّة والمبادرات المتشنّجة، كانت مبعثرة وغير منظمة، ومرتبطة بالخيارات المحلية العشائرية الخاصة، ولم تكن أبدا تعبيرا عن "وعي وطني" لم يتحقق أبدا، بل إن "موريتانيا" ذاتها من صنع الإدارة الفرنسية.
ولذلك يبقى مصطلح "الجهاد" أكثر دقة لوصف تلك المبادرات المعنوية والمادية، المسلحة والرمزية، شريطة التمييز بين الأعمال الجهادية التطوعية والصادقة وتلك المنفصلة عن الاعتبارات الخاصة والمنطلقات الضيقة.
وقد كانت المبادرات الجهادية العملية، ولاشك، تعبيرا حقيقيا عن شعور إيماني صادق، دفع أولئك إلى التصدي للمخالف في الملّة، وإن لم يكونوا على معرفة موضوعية كافية بكل تفاصيل الخطر الذي يواجهونه ومآلات تلك المواجهة وخفايا المشهد العالمي آنذاك.
وبذات الدرجة كان "للجهاد" وجهه الآخر، وهو السياسة، أي الواقع وما فيه من انعطاف ومرونة، ما يزكّيه منطق الأحداث، ومسارات العلاقة مع المخالف في الملة من بلد آخر. وهو ما جرى في بعض مراحل الجهاد المحلي، وفي مراحل بارزة منه.
لقد كان "قبول سلطة الأجنبي" أخف ضررا، وثقلا على الحس الأخلاقي، من حالات "الإذعان" (soumission) الكثيرة، والتي لم يجد أصحابها بديلا عنها بعد أن فشلت محاولات الانتفاضْ الشجاعة غير المحسوبة تماما، ثم وجد هؤلاء أنفسهم يخضعون، ولكن هذه المرة بشروط مهينة، لسلطة الأجنبي، الذي كان بإمكانهم الحصول منه على شروط أفضل لو جمعوا أمرهم في مفاوضات جماعية موحدة ومعقلنة، ولم يركنوا إلى الخيارات التنافسية القلقة.
وبالطبع ليس من الإنصاف التقليل من المبادرات الجهادية الشجاعة والصبورة والتي أبقت ذماء الدين وكرامة الأهل.، لكن لا ينبغي اختلاق الأمجاد الوهمية أو تحويل "التصرف العابر" إلى عمل بطولي باهر.
يجب احترام قواعد علم التاريخ وعدم العبث بالذاكرة:
ذكر كاتب عربي معاصر أن المؤرخ الانجليزي الشهير إيريك هوبزباوم، قال ذات يوم إن العرب لن يفلحوا في طِلاب نهضتهم ما داموا لا يميّزون بين التاريخ والماضي!
كان هذا المؤرخ القدير يقصد أن الماضي لا وجود له إلا في الذاكرة، بينما التاريخ هو الأحداث نفسها، وتأثيرها على الناس، وتدوين ما بقي منها في ذاكرتهم، مع تفاصيل معقدة في منهج التعامل مع كل تلك المعطيات، لأنه لا يمكن استعادة "الماضي"، كما وقع، بل الممكن هو تأويله وفق "روح عصره" ولكن من منظور الحاضر وانشغالاته.
تقول بديهيات المنهجية التاريخية أن "الوثيقة مقدّسة والتعليق حر"، لكن التعليق ليس عملا مرسلا، بل يطلب ثقافة واسعة في علوم الإنسان وتكوينا وممارسة وخبرة معقدة في تحليل المصادر ونقدها وتركيب المادة التاريخية والتمييز بين الحدث السياسي والحدث البنيوي والصياغة الكلية.
لم يُكتب التاريخ الوطني لحد الساعة، لأن الدولة المستقلة لم تقم وزنا لتلك المعطاة، كما لم تفلح جهود المؤرخين المختصين في ذلك المسعى، نتيجة لطابعها الفردي وتمحورها حول أطروحات علمية صعبة همها تحرير مباحث مونوغرافية بعينها أو بناء نماذج تفسيرية حول حقبة بكاملها.
يخلط الموريتانيون بين التاريخ والأنساب، وبين التاريخ نفسه والذاكرة، وبين هذين والماضي، ولذلك فهم يتعاملون مع "التاريخ" (الماضي ـ الذاكرة ـ الوقائع..) ـ حسب تعريفهم لكل هذه المعطيات ـ بوصفه جزء من ريع "البركة" يمكن التصرف فيه بمنطق عقاري، أو بطرق أشبه ما تكون بتوزيع الغنائم. ولذلك فهم لا يبالون بالتراكم العلمي في حقل التاريخ، لا منهجا ولا نظرية، سواء في التراث الإسلامي أو في العلوم الإنسانية المعاصرة.
وعيهم بـ ـ "تاريخ الاستعمار" يندرج ضمن تلك الحالة، ولذلك فهو مفعم بالتفكير الأسطوري والرؤية العشائرية ـ الأسرية وأيضا بالذاتية المفرطة.
الأعمال الوصفية حول الحقبة الاستعمارية، رغم أن أهميتها، أغلبها لا يصمد أمام أبسط قواعد النقد التاريخي المحكم.
أما الأدبيّات الأنْسابيّة، فتتكاثر كالفطر، يعززها شعور واسع بالإحباط، بفعل تراجع المشروع التنموي الوطني الجامع، ما يعزز جرعة المرارة في النفسية الجماعية، ويكرّس حالة من الرداءة الفكرية تغطي كل شيىء، حتى التاريخ نفسه، بوصفه "كهفا" يمكن اللجوء إليه هروبا من العاصفة، أي من الواقع المرير وتحدياته الصعبة.
ومن هذه الأعمال الوصفية، ما يجمع الروايات المفيدة، وإن بمنطق انتقائي لا يخفى، والبعض الآخر أشبه بمذكرات حزينة لم تكتمل، ولم يوفق صاحبها في إنتاج "سردية منسجمة".
يجب أن تخرج الوثائق إلى الضوء:
بدون الوثيقة لا يمكن أن نكتب التاريخ، على الأقل في المجتمعات ذات التقاليد الكتابية، لكن معظم الوثائق الأهلية والاستعمارية، ما تزال حبيسة الأدراج أو في جوف الصناديق، تأكلها الأرضة أو تتخطّفها الأيدي العابثة.
قد نجد عزاءنا في أن معظم المؤرخين بدأ في تهيئة أعمال موسوعية تحوي مئات الوثائق، يمكنها أن ترفع بعض اللبس عن "الخيارات المزدوجة" في الحقبة الاستعمارية، لاسيما في الجانب المعارض.
ويمكن اليوم أن نجد في الوثائق الاسبانية، المترجمة عن أصولها العربية الموجودة، قبسا من العلاقات الشائكة بين بعض المقاومين والهيئات الإسبانية، تماما كمثيلتها لدى الموالين للإدارة الفرنسية.
وتكشف الوثائق، قيد النشر، عن علاقات وثيقة، للعلماء والأمراء مع الإدارة الفرنسية في سان لويس قبل التغلغل الاستعماري بكثير، وبعده مباشرة، تماما كتقارير "الإذعان" التي تكشف عن قصور بنيوي في رؤية الموريتانيين لخصمهم اللدود.
يتواصل بإذن الله