روصو أولكوارب مدينة يعجز الزمن أن يغير شيئا من ملامحها رغم عراقتها وحدوديتها وحركيتها الدؤوبة، تفاصيل الحياة هنا تكاد تكون نسخة مكررة في كل يوم، ومع ذلك ليس هناك ما يدل على أن أهلها يشعرون بالضجر أو الملل من حال مدينتهم التي ربما لو قدر لجهة محايدة أن تزورها - هي أو أي من مدن البلاد الأخرى - لرشحتها مدينة منكوبة.
ليست روصو في الواقع إلا صورة فصيحة التعبير عن واقعنا الاجتماعي في الكثير من جوانبها، وبالذات فيما يتعلق بتراكم وتكلس الظلم الاجتماعي وتبلد مشاعرنا تجاهه، ربما لهذا الاعتبار كان قدر لكوارب أن تحتضن أشهر محاكمتين لمناهضي الاسترقاق تفصل بينهما أربعة وثلاثون سنة في عداد الزمن، أما في عدادنا المعطوب عطب الوطن فلافرق الحجج هي ذاتها، والعجز والقصور في فهم الحالة هو نفسه، والمشاعر خارج قاعة المحاكمة وداخلها متباعدة متضاربة أجواء المحاكمة في يومها الأول حملت رسائل عميقة وموحية تبحث عن بريد مستقبل وأني لها أن تجده فالبريد أيضا له حظه الوافر من التعطل والعطالة.
حين حضرت أمس رفقة الرئيس بوبكر ولد مسعود ووفد من منظمة نجدة العبيد كان الآلاف من الشباب يحتشدون ويهتفون أمام قاعة المحكمة مغنين للحرية ومعلنين رفضهم القاطع التعايش مع أي شكل من أشكال الاستعباد والظلم، ومع أن المشاعر كانت جياشة والحضور كان شبابيا بامتياز لكن الانضباط في الخطاب والسلوك كان الحال الأغلب على الحضور، وتلك الرسالة الأولى القادمة من روصو والباحثة عن بريد مفادها أنه حتى هؤلاء وهم شباب منتمون أو متعاطفون في عمومهم مع حركة تعتبر اليوم الأكثر راديكالية داخل شريحة لحراطين حريصون على السلم متمسكون به ومصرون علىه رغم حقل الاستفزاز المحيط بهم من الذاكرة إلى حيث يفترض أن يكون هناك عمل مرورا بالبيت والشارع.
كنت وأنا أستقبل مع الرئيس بوبكر إشارات التقدير لما تقوم به منظمة نجدة العبيد من الجمهور المحتشد أمام المحكمة أقرأ في ملامح هؤلاء البسطاء الخيرين المقهورين كتابا من قيم الشهامة والحرص على الحرية وعلى القطيعة مع عهود الاستعباد البغيض، مسطورا ومحفوفا بفيض من الرحمة والحب والحنان لم تفلح قسوة وجلافة تعاطي نخب الاسترقاق في الحد من توهجه وأصالته وألمعيته، لو كنت ممتدخا مجموعة وطنية أوبشرية في عمومها لفعلت ذلك مع لحراطين ففيهم من القيم ما يستحق المديح والثناء العطر لكن قناعتي الراسخة بتشابه البشر وبعدم التفاضل بينهم على أسس العرق أو اللون تجعلني أكبح جماح تلك المشاعر.
وفي مقابل رسائل الحرية والعدل والحب التي كانت تصل طرية من عيون ووجوه المحتشدين والمحتشدات أمام قاعة المحاكمة كانت هناك رسائل وخز تصل الضمير بحسرة ممضة، حين أتأمل الجموع فلا أكاد أجد فيها إلا نزرا قليلا من غير ضحايا الاسترقاق، دعوني أتحدث بصراحة أكبر فليس في العقد التعبيري الذي بيننا ما يلزمني بالغموض كان غياب البيظان عن المحاكمة أمس رسالة وخز مؤلمة في الضمير الوطني، وتعبيرا متكررا عن حالة الشلل الفكري والأخلاقي والقيمي والإنساني التي تعيشها قوى التأثير الأساسية في هذا المكون الوطني الهام في تاريخ وحاضر ومستقبل موريتانيا.
كنت وأنا أنتشي بأهازيج شابات وشباب لحراطين الهاتفين بالحرية والعدل " والجمبير" أواجه نزيف مشاعر داخلي بفعل إصرار من يصنعون القرار في المجموعة البيظانية على التعبير عن الانزعاج من صرخات العبد أو الحرطاني حين يجهش باكيا من قرون من الحيف ويريد له هؤلاء السادة المرفهون أن يبكي سرا وأن يدبج لجلاديه قصائد المدح عساهم يتكرمون بقبوله بيظانيا كامل الأوصاف وكفى، كنت في بعض المرات – أصارحكم أقترب أيضا من التعاطف مع من يفكر بهذه الطريقة قناعة أنه يعاني من مشكل إنساني وإسلامي واخلاقي ووطني مزمن لكن التعمق في تشخيص الحالة كثيرا ما صدني عن حالة التعاطف الكاذبة تلك حين يكشف عن كوم مصالح يظن هؤلاء واهمين أن من حقهم أو حتى أن بإمكانهم المحافظة عليها ظلما وغبنا واستعبادا واستعلاء.
إن الممارسات غير الإنسانية وغير الإسلامية التي مورست على العبيد في هذه البلاد وما زال بعضها يمارس على بعضهم حتى الآن، والحالة الاقتصادية والاجتماعية والانسانية المزرية التي تعيشها شريحة لحراطين حتى الان في المدن والقرى والأرياف، والصمت الفاضح لمن نعتبرهم نخبة فقهية وسياسية وإعلامية، بل وضلوع البعض منهم في ممارسة و تشريع وحماية هذه الظاهرة، أمور تمثل مكونات لوحة قاتمة حان الوقت لنثور في وجهها وندسها في التراب، ونركلها بالأرجل
في المشهد تفصيل مخيف للبعض ومفرح للبعض لكني كنت أنظر من زاوية غير تلك التي تطرب أو تقلق من يطلقون نظراتهم من زوايا نظر قومية، أتحدث عن حضور لافت للمكون الزنجي وبالذات البولاري، أعرف أن الأمر مخيف لمن يفكرون بعقلية دولة البيظان لأنه يعني أن الحلف الأسود يتعزز بين لحراطين ولكور، وهو مفرح بالنسبة لمن يفكرون على الأرضية المقابلة بالمنطق القومي الزنجي لأنه يعني أن الأغلبية السوداء تقترب من تحقيق حلم الاتحاد في وجه الأقلية البيضاء.
ما يهمني في الأمر ليست هذه النظرات القومية اللونية الحاسرة فهي جزء من صراع قومي لا أجدني معنيا بمتابعة مباراته الصفرية، اللهم إلا في جزئية واحدة ذات علاقة بموضوع لحراطين وهي رفض محاولات الفريقين الهيمنة عليهما فحين يتقرر أن يتحدد الانتماء على أسس الهويات الضيقة وهو ما لا أتمناه ولا أتبناه سيكون من السير في ركاب الاستعباد فرض هوية بيظانية أو زنجية على لحراطين، المستقلين عن المجموعتين بملامح مميزة إضافة إلى ما يجمعهما مع كل منهما.
الزاوية التي كنت أنظر منها إلى الحضور الزنجي في محاكمة الأمس كانت زاوية يمكن أن أسميها بتعبير لايخلو من استفزاز، بعض الفوائد الايجابية التي قد تجنيها المجتمعات من وقوع الظلم عليها وذلك حين ينشط في ضمائرها الفردية والجمعية زر التعاطف مع المظلوم، ليس غريبا أن ينشط هذا الزرفي روصو المدينة التي شهدت على مدى أسابيع أكبر حالة عقوق في تاريخ البلد يوم قرر ولد الطايع ونظامه رمي عشرات الآلاف من المواطنين وراء النهر، أرجو ألا يذكرني أحد هنا أن جرائم كثيرة وقعت بحق الموريتانيين في السنغال فأنا أعرف ذلك وأدينه بأقوى العبارات لكن استحضاره مع معاناة موريتانيين في موريتانيا وعلى يد نظامهم منكر من القول يفضح منطق أصحابه القائل إنه حين يظلم إنسان أسود موريتانيا في أي نقطة من العالم يكون الحل في أن ننتقم نحن من مواطنينا السود، بالله عليكم هل هنالك منطق أشد سقما وإعوجاجا من هذا المنطق.. عفوا أقصد من هذا المكاء والتصدية.
داخل قاعة المحكمة كانت هنالك صورتان إحداهما صادمة والأخرى مشعة مشرقة، أما الأولى فمكونة من هيئة محكمة من مكون واحد ومتهمون من مكون آخر؛ أربعة بيظان يحاكمون سبعة حراطين لست أعرف ما هي الصورة التي أراد من قام بتشكيل هيئة المحكمة إيصالها لنا، هذا إن كان هناك أصلا " من " ويتمتع فعلا بإرادة...؟
أما الصورة المشعة فكانت بامتياز من نصيب لفيف الدفاع المكون من كل المجموعات والتوجهات والأجيال، يتبارون كلهم في الدفاع عن الحرية والعدل وعن الحق في حياة لاعبودية فيها ولاقمع ولا استعلاء.
لقد كانت أشكال ومضامين فريق الدفاع وهو يتصدر قاعة الجلسة ، ويتجول في جنبات القاعة بلسما لجمهورتعج مخيلاته بصور أحادية إقصائية المغيب الأبرز فيها هو التعايش البديع الجميل الذي يحرمنا حلف الاقصاء والاستعباد التمتع بالحياة في أكنافه الوارفة.