الرؤية التخيلية الأوسع للأرض السائبة في إصداره الشعري الأول كانت أبعد من المفهوم والمصطلح الذي أطلقه الشيخ محمد المامي على تلك الأرض، وفي شعرية العنوان وتخييلاته مايحيل إلى الرحيل والاغتراب..
هكذا كان الصدى الأول للشاعر محمد ولد عبدي مدوياً وقوياً هز به بلاد النخيل،،تلك التي بقيت حاضرة في سنوات غربته الطويلة في أريحيته وطيبته وابتسامته الدائمة..في بيته المليء بالضيوف والذين لا يعرفهم أحياناً،،وفي الشاي الأخضر وفق طقوسه الموريتانية الأثيرة،،
كانت بداية تعرفي بولد عبدي، في البداية، كأي قارئ عادي خلال إصداره الأول والصدى الذي تركهُ، وتمضي السنين لنلتقي مباشرة للمرة الأول في الرباط بالمغرب 2007، كنت وقتها في سنتي الأخيرة في دراساتي العليا وكان هو قادماً لنقاش أطروحة الدكتوراه في الأدب، ،لم يفوت الشباب في رابطة الطلاب الفرصة وتم تنظيم محاضرة احتفائية به،،وتم اقتراحي لإدارتها حيث تحدث في مدرج مدرسة الهندسة المعمارية في سويسي رفقة الدكتور محمد الأمين الناتي عن الشعر والأدب وبلاد شنقيط وما بعد المليون شاعر،،المصطلح النقدي الذي أسس له وبنى له طروحات عديدة،،كان ذلك الملمح الأول لولد عبدي عن قرب؛ الشاعر الناقدُ الأديب المثقفُ الدمثُ الخلق،،،بعد ذلك اللقاء بعام كان لقاؤنا الثاني في أبوظبي وفي مقر المُجمع الثقافي سابقاً فكان الصاحبُ في الغربة الناصحُ ومرشد البدايات،،يحدثني دائماً عن الفرص في مجالاتي ويدعوني لاهتمامات ثقافية مشتركة بيننا،،ويحرص على الاتصال بي من وقت لآخر،،و كنت أحياناً لا أخبره بنشاط خاص بي تقديراً لمشاغله ومن ضمن ذلك أمسيتي الأولى في اتحاد كتاب أبوظبي،،ففاجأني بحضوره قبل الوقت وفي الصفوف الأولى بأناقته المعتادة،،وقدم لي ملاحظاته،، وكان لحضوره بالغ الأثر،،،
لدواعي عمل أنتقلتُ إلى دبي ولم تنقطع الصلة فكان صوته حميمياً من وقت لآخر يسأل عن الأهل وعن جديد الشعر،،،الشعر الذي يفتقد ولد عبدي كما نفتقدهُ اليوم،،،نفتقد أريحيته وابتسامته التي ظلت حاضرة حتى في عز المرض، وأذكر زيارتي له بعد عودته من رحلته العلاجية في فرنسا في شقته في "الخالدية" ومعنوياته العالية،،وحديثه الحميم وإلحاحهُ الدائم لي بإكمال الأطروحة،،،تلك الروح الجميلة وتلك الابتسامة التي وددتُ يوم الأحد الماضي أن يقابلني بها في وحدة العناية المركزة في مستشفى "المفرق" في أبوظبي،،حين أستطاع الأستاذ والأخ محمد ولد حمادي صديقه الذي لازمه في أيامه الأخيرة أن يتيح لي رؤيته،،كنتُ انتظر الابتسامة المعتادة والمحيى الأريحي،،دخلت الغرفة تجاوزت الستائر في وجل رفعت بصري ويدي لأصافحه فلم تجبني سوى أسلاك تنبض في جسمه،،وأجهزة تومض في بطء،،كان في غيبوبة وقد أنهكهه المرض اللعين،،لم استطع الانتظار طويلاً وخرجتُ وذهول يعتريني،،ودعاء متسارع بالشفاء له يخفقُ في قلبي،،وبعد اسبوع من لقائنا الأخير قدر الله ماشاء فعل،،رحل ولد عبدي لكنه ترك مآثر عطرة ،،إنجازه وسمعتهُ في كل مكان تشهدُ له بكل الخير،،شقة "الخالدية" المفتوحة في كل وقت للعابرين،،تلك الشقة التي روى لي صديق عراقي مشترك بيننا ذات مرة، إنه دائما يتفاجأ من كثرة الأحذية عند بابها، حيث كان يظن للوهلة الأولى أنه سكن مشترك، كعادة المغتربين،،وظل يظن ذلك حتى سأل يوماً ولد عبدي،،فأجابه بأنهم ضيوف،،ويستطرد محدثي مستغرباً؛ ضيوف على مدار العام!!شيء غريب!!وبالفعل كان ولد عبدي هكذا شقته مفتوحة للجميع وقلبه مفتوح للجميع،،وشايه الأخضر المُعطر، ينتظر الجميع،،ومجلسهُ الأريحي،،،
فرحمة الله عليك يا ولد عبدي وياعراب القصيدة وياصاحب القلب الكبير والابتسامة الدائمة،،،
محمد بابا
أبوظبي 28 ديسمبر 2014