مع مغيب شمس الجمعة تدخل النسخة العشرينية للأيام الثقافية في حاضرة بلنوار بدايات حفلها الختامي، بعد مناشط ثقافية وتوعوية راقية مثل أخلاق وشمائل سكان تلك القرية الوادعة،ومبدعة مثل أقلامهم الذهبية المداد وقرائحهم الفياضة بالأدب الناصع والتفوق الثقافي والعلمي في مجالات مختلفة ومعارف متعددة.
إنها لمناسبة طيبة، فسهل بولنوار سقي منذ أمد غير قريب بمداد علم وافر وأدب جزيل وعلم ناضر وفواح، وقرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار، وقد أنجبت القرية في امتدادها عبر الزمن أو استقرارها في المكان بدور أنوار ومجرة معارف، منذ عهد العلامة الكبير محمدو ولد الحظانه إلى عهد المصلح القائد الملهم محمد الأمين ولد أحمد عالم، وأسست تقاليد راسخة قوامها العلم والإباء والإبداع ولا تزال المسيرة مستمرة، تجدد وتضيف وتضفي كل يوم معنى جديدا ووترا إلى معزوفة إبداع تحبر أنغامها "الهمم الراشدة"
ينتمي إلى هذه البلدة الطيبة أسماء رفيعة في التاريخ الثقافي والعلمي للبلد، فشاعر الإباء والوطنية أحمدو ولد عبد القادر هو ابن لأبي لأنوار، وكذلك الدكتور المبدع المتميز علما وأخلاقا محمدو بن الحظانه، وقد رفدت هذه القرية الطيبة الحقل التربوي بنوابغ من الأساتذة والمعلمين والخبراء التربويين، وكان لأبنائها أيضا حضور نوعي في مجالات مختلفة من تخصصات متعددة، لأولئك الشباب المبدعين والفتيات الشغوفات بالعلم والإتقان أوسمة كثيرة من التقدير والإجلال وآماد من الإكبار.
إن بولنوار دون شك محظوظة بأبنائها وجيلها الصاعد وفتيانها المثابرين، لكنها أيضا محظوظة بفتاها الجليل الشيخ المرحوم محمد الأمين ولد أحمد عالم الذي يمثل بالفعل استثناء في زمانه ومحيطه الثقافي والاجتماعي ويعطي تاريخه ومواقفه مثالا نوعيا للقيادة المبدعة والراشدة المتقدمة على الجمهور.
لقد مثلت فترة ما بعد الاستقلال إلى بداية التسعينيات اختبارا حقيقيا للقياديات الاجتماعية في الأوساط المحافظة وخصوصا في النجاد والسهول الممتدة في "منطقتنا " تلك، لمواجهة المتغيرات الكثيرة في العلاقة مع الدولة وقيمها وأنظمتها الجديدة وخصوصا النظام التعليمي.
وقف كثير من المشايخ والزعامات ضد التعليم النظامي ورأوه فيه كربا عظيما، ومصيبة جسيمة وبعبارة أخرى لقد أقاموا أنفسهم ومواقفهم مكابح ضد حركة التاريخ والسير نحو المستقبل، وأقام كثير من الناس – بدوافع دينية كما يرون – أسوارا من الرهبة والخوف بين الجماهير والمدرسة العصرية، أما المرحوم محمد الأمين بن أحمد عالم فقد عرف مبكرا وتأكد أن " الفرنسية والنظافة لا يفسدان الدين" وفق ما ردد أكثر من مرة.
كان الشيخ محمد الأمين رحمه الله سابقا لزمانه ومجتمعه، شجع التعليم النظامي بقوة، رفقة بعض المتميزين من أقاربه الأٌقربين.
محمد الأمين ملك مسارين عقليين كانا غائبين عن كثير من الأقلام والعقول الاجتماعية في تلك الفترة، وهما
عقل تفكيكي : ينظر بقوة إلى مفردات النظام الجديد الذي يحاول إقامة دولة بين بحرين من ماء ورمال، ينظر إلى الحداثة الجديدة ويوازن بين مفرداتها وتشكيلاتها ووسائلها، وبذات النظرة يفكك نموذج البداوة السائد وأنماطه في التعليم وإقامة العلاقات الاجتماعية.
عقل تركيبي : يسعى لإقامة النموذج الخاص بمجتمع بدوي محافظ يغرس جذوره في عمق الثقافة العربية والإسلامية يرافق أفراده النصوص المحظرية ويعرفونها كما يعرفون وهاد الأرض ونباتها، بل كما يعرفون أبناءهم وأنفسهم، وقد أصبحوا اليوم جزء من عالم يتسع في فرص ووسائله ونعمه المتعددة، وفي إكراهاته وأزماته وأسئلته المتبعثرة، اختار كثير من الناس العزلة و
"الانحباس الحراري"
بين أودية ورمال وأنظام ومقولات عائمة تلعن الغرب والشرق وتنام مستندة على أعماق تاريخ يوغل هو الآخر في البعد من الحاضر، أما محمد الـأمين فقد اختار المبادءة والسير على بركة الله، يعرف أن يضع الخطى وإلى أن يقود الجمهور، وكانت النتيجة تلك النهضة العلمية الرفيعة في "بلنوار"، والتي لا تزال تتطور مع الزمن بعد أن ترسخت مكامن قوتها وفعاليتها.
والآن بعد أكثر من خمسين سنة من ذلك العزف المنفرد الذي مثله الشيخ محمد الأمين ولد أحمد عالم وأخوانه وزعامات اجتماعية قليلة بدأت حصون الرفض والتوجس من التعليم النظامي تتهاوى وبدأ الجميع يحس بأنه كان مفرطا في الشك، أو أنه لم يأخذ عن المدرسة "كفاية وصفية " كاملة، فجاء الحكم فرعا لتصور ناقص وباهت المعالم.
في حياته العامرة بأنوار المعرفة والإيمان والسمو الروحي لم يفصل محمد الأمين بن الصلاة والإبداع، كان يرى أن تخلي الشباب عن مواهبهم الأدبية وقدراتهم الذهنية عندما ينتمون إلى طائفة دعوية أو مذهب روحي يمثل مستوى من ضعف الفهم في الدين والأدب على حد سواء.
وبالفعل كان الشيخ محمد الأمين عالما جليلا وأأديبا مبدعا شاعرا محلقا مقلا رغم سمو لغته وجمال أسلوبه الأخاذ، لأن الرجل على ما رأى كان يملك عقلا علميا وعمليا، وكان مهموما بالإقلاع بمجتمعه نحو السمو العلمي اللائق به.
مرة سمعت ذلك الشيخ الوقور الضعيف الجسم القوي العزيمة والذاكرة يقول إنه قرأ مثلا مترجما في إحدى المجلات يقول "لا تنظر إلى نصف الكأس الفارغ ولكن انظر إلى نصفه الملآن"، وبدأ يتحدث عن الأمل والاستشراف والإنصاف أيضا باعتبارها ركائز لا ينهض بدونها بناء.
محمد الأمين أو "ألمين" كان قارئا نهما، مهتما بالإبداع والإعجاز العلمي، باعتبار هذا المنحى من الفتوح الربانية سبيلا عقليا مهما لإثبات التوحيد وإقرار عظمة الله تعالى، وفيما كان الشيخ ينهل من مصادر ومراجع وكتب ومجلات متعددة، ويحتفظ في ذاكرته ومكتبه وكنانيشه بفوائد متعددة منها، كان أشياخ وعلماء آخرون يرهبون تلك الكتب والمنشورات الحديثة، ويعضون بالنواجذ على ما في الكتب العتيقة والمأثورات الأصيلة، وهي على ما فيها من فائدة ليست المصدر الوحيد للمعرفة، وهي أيضا في غالبها بنات زمانها ...لا أكثر.
يتفوق المرحوم محمد الأمين على جيله بل وعلى أجيال لاحقة، فهذا الشيخ المبدع تلقى دورة مكثفة في الإسعافات الأولية على أيدي أطباء فرنسيين في الخمسينيات، وكان الدافع الأساسي هو الشغف الأخاذ إلى المعرفة والتجديد.
لكن محمد الأمين تلقى دورة موسعة على يد أساتذة الحياة والعقل المبدع، اعتبر الحياة مدرسة مفتوحة وأستاذا متعدد التخصصات فلم يحصر نفسه في زاوية محددة بل كان بالتعبير التقليدي مبدعا ومشاركا في مجالات متعددة.
عند رحيله مضمخ الأكفان بأريج المغفرة والرضوان والأثر الجميل والذكر الحميد، كانت سمعته وعلاقاته قد وصلت أرحام الوطن المختلفة وأنحاء البلد المتعددة، فتوافدت قوافل المعزين من مختلف أنحاء البلاد، يقدم كل وفد شهادة مختلفة وقصة وأثرا عن علاقات وآثار المرحوم الذي رحل محمد الأمين في سبتمبر 2011 ...تاركا خلفه كثيرا من الذكر الحسن والأدب الرفيع والأثر الطيب .. برحيله رحل الحكيم العاقل، ولكنه ترك مسيرة منتصرة ورسالة خالدة تصدح بها بلنوار، وتنسجها قلائد في أجياد الزمان..
يستحق الراحل اعترافا وإجلالا كبيرا، لم لا تكون هنالك جائزة للمتفوقين دراسيا أو لإصحاب الابتكار والتميز في البحث العلمي باسم محمد الأمين أو مكتبة مفتوحة للطلاب تحمل اسمه وذكراه وعبقه الذي لا يزال حاضرا أريجا في رئة الزمان وذكريات عاطرة عن عقل منفتح ورأي سديد وفهم رشيد.
وما أصدق ما عبر عنه الشاعر المبدع سيدي ولد الأمجاد في رثاء محمد الأمين
رأيت الغضا والطلح والسرح هاتفا
يردد ما مات الأمين المجاهد
ويعلو نشيد للبشام بذكره
وللسرو والصمغ الأصيل حصائد
ففي كل حي للأمين فضائل
تضيئ بها في العالمين الفراقد
رحم الله الحكيم محمد الأمين وكثر في الناس – كل الناس- من أمثاله.
محمد سالم بن محمد