كنت في الحجر الصحي، وكل يوم يزداد خوفي ليس بسبب الخوف من أن أكون مصابة بالفايروس بل خوف من العالم الخارجي، كنت أتساءل عندما أخرج الي اين سأذهب انا وأخي (سِيباسْتيَان)؟ الذي لم يبلغ إلا 11 من العمر؟، إلى من سنلجأ؟
فهذا الوباء المنتشر لم يترك لي احدا، أبي(جوزيف) صاحب 65 سنة الذي كان يكابد من أجل حياتي وحياة أمي(كارولينا) و"سيباستيان" بواسطة قارب مستأجر في بحر "ميلانو" المدينة الايطالية التي كانت ملائمة للعيش وكانت شوارعها مليئة بالأشخاص فانقلبت حالُها رأسا على عقب، أصبحت كمدينة مهجورة من القرن17ميلادي، فقد أقفرت حتى من الشياطين.
نعم هذا حالنا، آتانا كورونا فجأة، ربما نحن من أوائل الأسر التي صارت فريسة لهذا الوباء الفتاك، فمع ظهوره لم يبق أبي في المنزل، ولم يكن الفايروس قد انتشر آنذاك في إيطاليا، بل لايزال في الصين، وفجأة بعد اسبوع انتشر كالهشيم فأصيب الكثيرون وأوقفت الدراسة في البلاد، وتم توقيف كل الأعمال.
في تلك الفترة بدأت الأعراض تظهر علي أبي، فشَعر بالهلاك وقال لنا: لا يقترب مني أي شخص، أشعر أنني لست بخير، واتصلت أمي بالجهات المختصة وإذا بها تصنع من نفسها امراة قوية، وجاءت سيارة إسعاف فبدا الوجوم على وجه أمي، ولم تتحمل فأجهشت بالبكاء والصراخ، أما "سيباستيان" فقد صُدم وظل ساكتا، وقد كانت حالتي كحالةأمي أو أشد، وضع أحد المسعفين يده على كتف أمي وخاطبها بصوت خافت:
_ يجب أن تدخلوا في الحجر الصحي ولكن في منزلكم، ولا يقترب أي واحد منكم من الآخر.
وبعد يومين من الحجر ظهرت أعراض المرض على أمي فأخذوها إلى المستشفى، وفي مساء ذلك اليوم تم إخبارنا بالخبر الذي نزل علينا كالصاعقة: أبي قد مات.
وبعد أيام بدأت الحالات تتفاقم وازداد الوضع سوءا، وقرر الأطباء أن يبقوا على حياة المرضى الذين لم يبلغو الستين وتركوا الذين تجاوزا الستين يموتون في الطرقات وفي المنازل، وكأنهم لا يعرفون أن هذا بلد العجائز. أخبرونا أن الذين لم يلغوا الستين أحق بجهاز التنفس من الذين تجاوزا ذلك العمر، ولأن أمي كانت في حدود 60عاما أخذوا منها جهاز التنفس وتركوها تتلاحق أنفاسها لتموت أمامهم وبين أيديهم ...
ولم يصلنا خبر وفاة أمي إلا بعدما جاءني أحد الدكاترة ليخبرني أنني لست مصابة ولا أخي، ولكن يجب أن نبقى في المنزل فسألته: ماذا عن أمي؟ فقال:
_ أمكِ ادعي لها أن ترقد بسلام. فجعلتُ أضربه على صدره وأقول له: _ هل أخذت من أمي جهاز تنفس لتعطيه لشخص آخر؟ من أين لك كل هذه القوة لتقتل أمي؟ إنكم لظالمون.
وبدأتُ أبكي فقال لي الدكتور:
_صوفيا يجب أن تصبحي قوية، ليس فقط من أجلك بل من اجل اخيك ايضا.
فجعل يمسح دموعي الغزيرة، وحينها أعطاني ورقة فيها رقم هاتفه، وقال لي:
_إن احتجت أي شيء فلا تترددي بالاتصال عليَّ فأمكِ أوصتني بأن أنتبه لك، وبسبب عملي الآن لا يمكنني أن أذهب. لذا ان احتجت اي شيء اتصلي بي وساكون بجانبك.
ذهبتُ انا وأخي الي المنزل ذلك المنزل الذي كان يمزح فيه أبي مع سيباستيان ويقول له:
_ كن لاعب كرة القدم لكي تخرجنا من غياهب الفقر.
فتردُّ أمي قائلة:
_ لا، هو سيكون مهندسا ومثقفا.
كان طموحي آنذاك مصممة أزياء وكنت أعرض لهم مستقبلي مُخطَّطا ومُنظَّما ولا أزال في الجامعة.
وبعدوصولنا قال لي سيباستيان:
_ صوفيا لا تخافي سوف أعمل ليلا ونهارا من أجلك.
عندها أحسستُ أنه يجب أن أصبح قوية لأن صاحب 11 ربيعا يقول إنه سوف يعمل من اجلي وانا التي أكبره ب10سنين لا يمكنني أن أصبح قوية؟
ولكن البلاد كلها لاتعمل اين سيعمل؟ فالبلأد في حالة دمار شامل....
وما هي إلا أيام حتى ارتفعت درجة حرارة سيباستيان فاتصلتُ بالدكتور فاستقبلني أحد زملائه وأخبرني أن الدكتور يرقد منذ يومين في غرفة الإنعاش بعدما أصيب بالفايروس، ولما أخبرته بأمري وحدثته عن صلتي بزميله جاءني مسرعا رفقة مجموعة من الأطباء، وقام بفحصنا معا وفي هذه المرة خرج الفحص إيجابيا لي ولسباستيان وتم إسعافنا، وعندما وصلنا المستشفى ممتلئ من الكباكين والصراخ يعلو فوق كل شيء : نعم لقد مات الدكتور الطيب الذي شهد له الجميع بدماثة الأخلاق وحسن التعامل، أما أنا وسيباستيا فقد افترقنا، أدخلوني غرفة منعزلة عن الغرف وزودوني بأجهزة وأمروني بألا أتحرك ريثما يسمحوا لي. وتدهورت حالتي الصحية شيئا فشيئا، وبعد يومين من الإسعافات الغير مجدية طلبت أن أقابل أخي ولكنهم لم يقبلوا، وأخبرني أحدهم أنه لايمكنني مقابلته حفاظا على صحتي وصحة أخي...
وبعد 3 أيام سألت ممرضة كانت تلازمني عن حالة اخي وقالت لي: _لايمكنني أن أحدِّث عن أي حالة إلا باذن الطبيب المسؤول عنها، فحاولت ان أقنعها وأستعطفها وبعد عناء قالت لي:
_ إن أخاك توفي بعد مجيئه للمستشفى بيوم واحد، فعلمتُ أنهم لم يتركوني أقابله لانه كان قد مات.
وازداد الأمر سوءا وأظلم الكون في عيني وتذكرت أيام أبي وأمي وأخيرا أخي... ووجدت نفسي وحيدة مهمومة لم يتبقي لي شيء لأعيش من أجله سئمت الحياة وكرهتُ الدنيا وما فيها.
وأنا الآن مريضة أعاني ما أعاني في غرفة ضيقة لا يدخلها إلا أطباء مقنعون صامتون....
وأخبرت الأطباء بأنني مستعدة لأتنازل عن جهازي التنفسي لأي شخص آخر وأعطيه سريري في الغرفة فربما لايزال لديه عائلة لكي يعيش من اجلها، أما أنا فلم يعد لدي شيء أعيش له، ولا شيء أخاف أن أخسره، مزقني الفايروس الفتاك لم يترك لي شيئا لا أهلا ولا طموحا ولا حتى نفَسا أردِّدُه.
كتبتُ هذه القصة ليس من أجل أن أكسِب تعاطفكم، ولا أن أدخِل الحزن إلى قلوبكم، بل اريد من الجميع ان لا يضيع حياته وحياة عائلته ويجعل بلده في حالة يرثى لها...
احترزوا واحذروا من هذا الوباء، ابقوا في بيوتكم، عيشوا حياتكم بأمن وأمان، وتحابوا فالحياة جملية بدون الكرونا.
بقلم: محمد الأمين/ محمد عالي.