لا خلاف على أن فكرة تنظيم مهرجان سنوي في إحدى مدننا القديمة هي فكرة عظيمة، ولكن هذه الفكرة العظيمة تحولت عند البدء في تنفيذها إلى مهزلة حقيقية، وذلك بعد أن تحولت هذه المهرجانات إلى مجرد مناسبات للغناء وللرقص ولسباق الحمير، ولتقديم آخر ما جادت به قرائح الموريتانيين
من نفاق، ومن تصفيق، ومن قصائد تمجد السلطان، فصيحة كانت أو شعبية، أو هندية حتى.
المقلق في الأمر هو أن قرائح الموريتانيين لا تنضب أبدا عندما يتعلق الأمر بالتصفيق، وبالتملق، وبالتطبيل للسلطان، فدائما هناك جديد قديم أو قديم جديد عند عمالقة التطبيل والتصفيق في هذا البلد، وكل أهل هذا البلد، إلا من رحم ربي، هم من عمالقة التصفيق والتطبيل.
ما حدث مع هذه الفكرة العظيمة، أي فكرة مهرجان المدن القديمة، هو نفسه ما حدث مع أفكار عظيمة أخرى سبقت هذه الفكرة، كفكرة محاربة الأمية، وكفكرة تشييد المكتبات ودور الكتاب. وما سمعنا وما شاهدنا في مهرجانات المدن القديمة، هو مجرد إعادة مملة وسخيفة لما كنا نسمع ونشاهد في عهد "عزيز الأول" عندما كان يتم افتتاح أقسام محو الأمية، أو تشييد دور الكتاب، وقديما قالت العرب : ما أشبه البارحة بالليلة، ولا داعي للتصحيح، فالخطأ هنا مقصود مقصود مقصود.
لم تأت النسخة الخامسة من مهرجان المدن القديمة بجديد، إلا في أمرين اثنين وهما: إعلان الرئيس عن استعداده للحوار، والجلسة التي ظهر بها وزير الشؤون الإسلامية وهو محشور بين وزيرتين يتابع مقاطع من الغناء والرقص!! وفي اعتقادي بأن كلا من الأمرين يستحق تعليقا سريعا.
جلسة وزير: لم يكن من اللائق بمن يحمل صفة "وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي" أن يظهر بذلك المظهر الذي ظهر به الوزير أحمد ولد أهل داوود، حيث ظهر للموريتانيين وهو يتابع مقاطع من الغناء والرقص جالسا بين سيدتين.
فلماذا لم يطلب الوزير بأن يتم تغيير مكان جلوسه، أو تغيير مكان جلوس إحدى الوزيرتين؟ ولماذا قبل أن يظهر بذلك المظهر المهين في مهرجان تبثه وبشكل مباشر أكثر من قناة تلفزيونية.
كان على الوزير أن يبحث عن مخرج لائق من الورطة التي أوقعه فيها المنظمون، وكان عليه أن يتعلم من العلامة الكبير، والشيخ الجليل، والوزير الأسبق للثقافة والتوجيه الإسلامي المرحوم محمد سالم ولد عدود عندما وجد نفسه أمام حادث مماثل.
ففي عهد المرحوم محمد سالم ولد عدود كانت الوزارة تجمع بين الثقافة والشؤون الإسلامية، ولقد دعي الشيخ الجليل لحفل أو مهرجان كان من بين فقراته شيء من غناء ورقص. فما كان من المرحوم محمد سالم ولد عدود إلا أن ترك المهرجان من قبل أن تبدأ الفقرات التي لا تليق به متابعتها، حتى وإن كانت وظيفته (وزير الثقافة) تفرض عليه أن يكون حاضرا لتلك الفقرات.
لقد ترك المرحوم محمد سالم ولد عدود المهرجان، وقد قال كلمة عند مغادرته للمهرجان مفادها أنه غادر المهرجان بوصفه وزيرا للشؤون الإسلامية، وذلك بعد أن افتتحه بوصفه وزيرا للثقافة.
ومن قبل أن اختم هذه الفقرة من المقال المتعلقة بجلسة الوزير فإنه قد يكون من الضروري أن أرد على أحد متابعي حسابي على "تويتر" والذي قال بأنه ما كان عليَّ أن "اغتاب" وزير التوجيه الإسلامي بالحديث عن جلسته من خلال حسابي على "تويتر".
فلو أني صادفتُ الوزير في جلسة كتلك في مكان خاص لما تحدثتُ عنها إطلاقا، ولكن، وما دام الوزير قد ظهر في تلك الجلسة في مهرجان كبير تنقله أكثر من قناة تلفزيونية، فإنه في هذه الحالة، يكون من الخطأ الكبير عدم التعليق علنا على جلسته التي لا تليق بوزير الشؤون الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
دعوة رئيس : لا يمكن أن ننتظر جديدا من هذه النسخة الجديدة من الدعوات للحوار التي يطلقها الرئيس من حين لآخر، والتي اختار أن يطلقها هذه المرة من خلال خطابه في النسخة الخامسة من مهرجان المدن القديمة.
إن الإعلان عن الاستعداد للحوار، وإن إبداء حسن النية قد يكون أمرا في غاية الأهمية إذا ما جاء من حزب سياسي، أو من كتلة أحزاب سياسية، وذلك لأن الأحزاب السياسية لا تمتلك إلا إظهار حسن النية، ونحن علينا أن نحسن بها الظن، وأن نصدقها عند الإعلان عن استعدادها للحوار إلى أن يظهر لنا عكس ذلك، ولن يظهر لنا ذلك إلا عندما تُظهر هذه الأحزاب والكتل شيئا من التقاعس عن الحوار عندما تبدأ الاستعدادات الفعلية لتنظيم الحوار. أما أن تأتي هذه الدعوة من الرئيس، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن نحسن الظن بدعوته، وذلك لأن الرئيس يمتلك، على العكس من أحزاب المعارضة، الكثير من الوسائل التي يمكن أن يثبت بها على أرض الواقع بأنه جاد في طلب الحوار.
إن أي دعوة للحوار تأتي من عند الرئيس لا تسبقها جملة من الإجراءات لاستعادة الثقة بين السلطة والمعارضة ستكون دعوة بلا معنى.
إن على الرئيس من قبل أن يدعو للحوار أن يبدأ بإجراءات عملية لاستعادة الثقة ولتهيئة الأرضية لحوار جاد، فعليه أن ببعد الجيش عن السياسة، ويمنح للقضاء شيئا من الاستقلالية، وأن يفتح الإدارة أمام جميع الموريتانيين (معارضة وموالاة)، وأن يفتح وسائل الإعلام الرسمي أمام الجميع، فليس من المقبول أن تمنح وسائل الإعلام الرسمي مساحة واسعة لتغطية بعض الأنشطة التي نظمها الحزب الحاكم تخليدا لليوم العالمي لمكافحة الفساد، وذلك في وقت تتجاهل فيه، وبشكل كامل نشاطا أكبر نظمه المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة في نفس اليوم، وهو المنتدى الذي يضم عددا كبيرا من الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة.
إن على الرئيس أن يقوم بمثل تلك الإجراءات، حتى وإن كان لا يسعى لحوار، وذلك بوصفها إجراءات مطلوبة من رئيس يدعي بأنه رئيس منتخب، وبأنه ديمقراطي، ويزداد الأمر إلحاحا إذا ما كان الرئيس يسعى وبشكل جاد إلى تنظيم حوار مع المعارضة الموريتانية.
ومن قبل أن يبدأ الرئيس بتلك الإجراءات، فإن أي دعوة جديدة للحوار لن تختلف عما سبقها من دعوات رئاسية للحوار لم يعقبها أي حوار.
حفظ الله موريتانيا..