لا يختلف اثنان اليوم على أن الوحدة الوطنية والانسجام والتماسك بين مكونات الشعب الموريتاني تزداد يوما بعد يوم تصدعا واختلالا، وتتسع الفرقة والاحتقان بين المكونات العرقية والاجتماعية حتى أصبحت الدعوات إلى تشرذم البلاد وتمزيقها وحمل السلاح ضد الدولة شعارات مألوفة تتكرر على مرآي ومسمع من الجميع.
وليست هذه الوضعية سوى النتيجة الحتمية والحصيلة لاستخفاف محمد ولد عبد العزيز بالشأن العام ونظرته القاصرة له ولما انتهجه من تأليب - معلن أو من وراء حجاب لدواع سياسية ظرفية - لمكونات الشعب الموريتانية بعضها ضد البعض، وإتاحته الفرص لخطابات التفرقة وإثارة الفتنة وتوفير المنابر الإعلامية لها.
لقد رفض النظام الاستجابة لمطالب حزب تكتل القوى الديمقراطية التى أصدرها فى برنامجه الوطني وفى جميع العرائض والبيانات الصادرة عن مؤتمراته وهيئاته التنفيذية حول قضية الوحدة الوطنية بجوانبها المختلفة وعلى رأسها القضاء النهائي على الرق وعلى كل آثاره، ضمن هبة وطنية تسخر طاقات البلاد الفكرية ومخزونها الغني من جبر الظلم، انطلاقا من الشريعة الإسلامية والقوانين والمواثيق الوطنية، وتوظيف الإمكانيات المعنوية والمادية لإنهاء جميع أنواع الحيف على الشرائح المهمشة فى المجتمع.
كما رفض الإنصات لكل النداءات المسؤولة الصادرة عن أطراف وطنية كثيرة من أحزاب سياسية وهيئات مجتمع مدني، ومن بينها الميثاق من أجل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين، واستبدل كل ذلك بسياسة ذر الرماد في العيون عبر مشاريع جانبية صممت لأغراض دعائية دون مشاركة المستهدفين منها، وتعيين أشخاص عرفوا بتزلفهم لكل الأنظمة، كما هو ديدنه كلما حاصرته المشاكل، مما يجر إلى حالة احتقان، مثل التي تعيشها بلادنا اليوم.
أما معالجة الإرث الإنساني فقد تميزت بالارتجالية وعدم الجدية، مما حال حتى الآن دون تمتع بعض المواطنين العائدين من حقوقهم المشروعة، وقد واكبت ذلك حالات كثيرة من الابتزاز والمضايقات من طرف السلطات، ومنع البعض منهم من الإحصاء مع تسجيل غير الموريتانيين من جنسيات مختلفة.
وبالموازاة مع هذا النهج السياسي المدمر يتواصل انهيار النظام التربوي حتى أصبح عاجزا عن حمل رسالته كعامل موحد للأمة وأداة ترقية اجتماعية للطبقات الأقل استفادة حيث استبدلت المدرسة العمومية التي تتساوى فيها الحظوظ بين أبناء الفقراء والأغنياء (أو الأقل فقرا) بمدرستين متوازيتين لا وجود لجسور بين روادهما، وإنما يتشاركون الفشل الناتج عن ضعف أدائهما وانعدام الوسائل والافتقار إلى جدية في المنهج ...
ولم تكن المؤسسات العسكرية والأمنية، التي من مهامها المفترضة أن تكرس مبدأ المساواة بين مكونات الشعب لتشكل بوتقة للانصهار بين أفرادها، بأحسن حظ من المدرسة، فالاكتتاب والتدرج في الرتب وتولي الوظائف السامية في هذه المؤسسات لا تكون إلا على أساس العلاقات الخاصة والولاء السياسي والمحاباة والعشائرية، بعيدا عن الكفاءة والقدرة على القيادة والانضباط والتجربة الميدانية، مما جعل أبناء الطبقات الأقل حظا تفقد، داخل هذه المؤسسات، كل أمل في الترقية والنبوغ والخروج مما هي فيه من تهميش وعدم إشراك في الشأن العام.
أما الأوضاع الصحية للمواطنين فلا تحتاج إلى توضيح، فالتجهيزات الطبية تم اقتناؤها بأسعار باهظة وكانت فرصا للحصول على عُمُلات للمقربين من رأس النظام ولم تفتأ بعد تسلمها من بائعيها تتعطل عن العمل، كما سُلب من صناديق شركة الدولة لاستيراد الأدوية قرابة مليار أوقية تم إيداعها بأوامر عليا في بنك مفلس؛ إن التفرقة بين الفقراء والأغنياء (أو الأقل فقرا) في هذه الخدمة ظاهرة للعيان، فالطبقة الأولى هم نزلاء المؤسسات الطبية العمومية المعروفة حالتها الرثة، التي لا تراعي المعايير الصحية الأدنى، والثانية يلج أصحابها مشافي خصوصية لا رقابة عليها من الجهات الوصية، أو يتعالجون خارج البلاد بتكاليف باهظة.
وعلى المستوى الاقتصادي، تنذر السنة الحالية بأن تكون سنة جفاف وتدهور للغطاء النباتي، كما ستنهار فيها قيمة الصادرات المنجمية، وخصوصا من الحديد الذي تدهور سعره بحدة في السوق الدولية مما قد يهدد استمرار شركة اسنيم في مواصلة أدائها بمستواه الحالي مع ما ينجرُّ عن ذلك من اثر بالغ على الاقتصاد الوطني، وفي هذا المقام ما فتئ التكتل يذكّر بأن الموارد الطائلة التي حصلت عليها الدولة الموريتانية في السنوات الستة الماضية، التي عرفت ارتفاعا ملحوظا في أسعار المناجم، تم تبديدها وإنفاقها دون حكمة أو تبصر، في مشاريع لا صلة لها بمهمة شركة اسنيم، الأمر الذي جعلها عاجزة عن التصدي للازمة الخطيرة التي نعاني منها اليوم بإجماع كل المراقبين الاقتصاديين والقائمين على الشركة أنفسهم.
ويظل قطاع الصيد مسيًّرا من طرف جهات أجنبية على الوزارة المكلفة به وهي التي تحدد السياسة المتبعة فيه، تصفي حساباتها الخاصة مع العاملين فيه عبر سلطة الإدارة، وتستغل موارده لثرائها الشخصي الفاحش، ولا تتوانى عن التفاخر بذلك علنا.
أما أسعار المواد الاستهلاكية فتعرف ارتفاعا هائلا، وما يسمى برنامج "أمل" فهو مجرد آلية وضعت، من حيث الأساس، لتبديد الممتلكات العمومية لصالح ثلة من النافذين المعروفين بقربهم من النظام وملاصقتهم الشديدة له؛ ولم يتراجع ثمن البنزين بالرغم من الانخفاض الحاصل في سعر النفط على المستوى الدولي الذي بلغ ثلث ما كان عليه، ومن المعروف مدى تأثير أسعار المحروقات على تكاليف المواد الاستهلاكية الأخرى. وبحكم التدهور الشديد للظروف المعيشية للمواطنين فى جميع أنحاء الوطن، وانعدام أي إرادة جادة لدى النظام القائم لمعالجة هذه الوضعية الكارثية، اتسعت دائرة الفقر بشكل ملحوظ، وتلاشت خدعة "رئيس الفقراء" التى كان يتشدق بها محمد ولد عبد العزيز...
ولا غرو في ظرف كهذا أن ينفلت الأمن وتتغلغل المخدرات والمتاجرة بها في بلادنا، ويصبح القتل والاغتصاب أمرا معتادا يوميا، لا يُحرك ساكنا ولا يُلفى له علاج، وتظل عشرات الآلاف من الشباب حملة الشهادات عاطلين عن العمل، حيارى، فاقدي الأمل، لا يترآى لهم في الأفق إلا الهجرة والمنفى، وفي بعض الحالات الانخراط في تنظيمات متطرفة إرهابية، تتحرك على حدود بلدنا وتهدد أمننا، مستغلة فشل الدولة في أداء مهامها الأساسية.
ومما لا شك فيه أن ممارسة محمد ولد عبد العزيز وانفراده بالسلطة ونظرته القاصرة للدولة ومقدراتها ومواردها، كما لو كانت ملكا خاصا له، بعيدا عن مرتكزات دولة القانون، أدت إلى تبديد للممتلكات العامة بحجم هائل لم يعرفه بلدنا، يعد بعشرات الملايير، تُسلب من الخزينة العامة ومن الشركات العمومية وعبر بنوك مفلسة ومؤسسات عمومية يديرها مقربون من النظام، حتى أصبح السطو العلني على عقارات الدولة ومواردها أمرا مألوفا لم تنجو منه مباني مدرسة الشرطة ولا الملعب الاولمبي، ولا ثكنات الجيش، بل يوشك أن يطال أملاك الخصوصيين في سوق العاصمة. وتوالت الفضائح المالية كالتي أقر بها على نفسه علنا عمدة مدينة الزويرات، المعروف بقربه من محمد ولد عبد العزيز، دون أية مساءلة قضائية، بل تمت ترقيته كرئيس لرابطة العمد الموريتانيين، مما افرغ الشعار العبثي - مكافحة الفساد - من كل معنى له حتى أصبح محلا للتنكيت والتندر بين العامة.
إن حالة مرفق القضاء وانعدام الثقة في قراراته وأحكامه أمر مسلم به عند الجميع، وباتت الإدارة هي الأخرى عاجزة عن أداء مهام الدولة الأساسية، فأسندت مفاصلها الحيوية لأشخاص معينين على أساس ولائهم لشخص محمد ولد عبد العزيز، لا يملكون في غالبيتهم كفاءة ولا تجربة ولا أمانة، بينما استُبعد الموظفون العموميون ذوو التكوين والتجربة من الخدمة وحتى من إبداء الرأي في العمل.
ومما يزيد الوضع سوءا ويدعو إلى القلق البالغ، أن المؤسسات المنسوبة ـ تكلّفا ـ للدستور والتي تملك الآليات القانونية للتصدي لهذه الأوضاع فاقدة المصداقية، عاجزة عن التحرك وأخذ المبادرة، كرئاسة الجمهورية والبرلمان التى يُفترض أن تكون منبثقة عن انتخابات حرة ونزيهة، بينما جاءت إثر عمليات تزوير واسعة وشراء للذمم واستغلال فاضح لوسائل الدولة ومواردها؛ وفي الحكم الصادر مؤخرا في لندن على شركة "اسميث آند اوزمان" (Smith & Ouzman) لاقترافها جريمة رشوة المشرفين الموريتانيين على عملية إعداد الآليات الانتخابية، ما فيه من دلالة ومثبتات لمن كان يخامره شك بهذا الصدد.
أما باقي المؤسسات، مما يسمى مجلسا دستوريا ومجلسا اقتصاديا واجتماعيا ومجلسا إسلاميا أعلي وآخر للفتوى والمظالم، ومحكمة حسابات، ومرصد الانتخابات، ورئاسة مجالس الإدارة، التي أصبحت حكرا على الوجهاء المتقاعدين، فهي هيآت خاوية على عروشها لا نشاط لها ولا استقلال عن إرادة رأس السلطة، وتنحصر مهمتها في تبرير منح مقربين له مزايا مادية، أقرب ما تكون إلى شراء الذمم من هي إلى تعويض ممنوح لأشخاص عرفوا بكفاءتهم وأمانتهم، وحسن بصيرتهم في التعاطي مع الشأن العام، ويؤدون خدمة للدولة والمجتمع.
ان كل هذه العوامل جعلت المستثمرين يفقدون الثقة في حكامية بلدنا ويهجرونه الواحد تلوى الأخر، كما هو الحال بالنسبة لشركة "تول اويل" (Tullow Oil) و"اكستراتا" (Xstrata) و"توم ابراون" (Tom Brown )، بل يلجأ البعض منهم إلى القضاء والتحكيم الدولي والوطني ضد الدولة الموريتانية، كشركات "بومي" (Bumi)، و"ب ب انرجي" (BB Energy)، و"بيزرنو" (Pizzorno)، وغيرها.
من ناحية أخرى، يتواصل التدمير الممنهج لبيئة البلاد من قطع للأشجار وتقويض لمشاريع تثبيت الرمال، خاصة الحزام الأخضر لنواكشوط، وقتل مستمر للحيوانات البرية حتى أصبحت البلاد شبه خالية من النعام والغزلان والوعول والظباء، ناهيك عن الفيلة والأسود والنمور والضباع (اكرافيف) وأبناء آوى (الذئاب) التى أصبحت آخر صيحة فى مجال الصيد للمترفين بعدما قضوا على الأرانب والزواحف، مما قد يتسبب فى تفشى أوبئة كمرض "الإيبولا" الذى انتقل إلى البشر بواسطة لحم القردة التى أكلها سكان بحيرة إيبولا فى الكنغو الديمقراطية؛ يضاف إلى هذا تصاعد وتيرة زحف الرمال أمام عجز السلطات المعنية عن التصدي بحزم لهذا الخطر.
إن هذه الوضعية ترسخ القناعة بأن البلاد أصبحت سائبة، لا تحترم فيها القوانين، خصوصا تلك المتعلقة بحماية البيئة، بينما يتبجح النظام بإقامة وزارة لهذا الغرض، لا وجود لها سوى فى بنود صرف ميزانية الدولة أو عبر بيانات زائفة.
إن تكتل القوى الديمقراطية، أمام هذه التحديات الجسام التي تتهدد موريتانيا وبقاءها وديمومة الدولة على ربوعها :
- يحيي النضال الدؤوب لمناضلي الحزب، وما بذلوه من تضحيات جسام خدمة للوطن؛
- كما يحيي تحمل المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة لمسؤولياته من أجل جمع شمل الموريتانيين، بغية إحداث تغيير ديمقراطي جذري وسلمي، يمكن من القطيعة حقا مع الفساد والتلاعب بمصالح البلاد؛
- يذكر بأن الحل لن يكون إلا بالوحدة الوطنية والعمل على وضع حد للفوارق الاجتماعية الكبيرة وذلك بقيام دولة ديمقراطية، قوية، عادلة، متشبثة حقا بقيمها الإسلامية، يتعفف القائمون عليها عن المال العام وعن الغلول وعن أموال كل الجهات المشبوهة مهما كان مصدرها شرقا أو غربا؛
- يدعو كافة الشعب الموريتاني والقوى الحية إلى الالتفاف من أجل تحقيق هذا الهدف، وذلك عبر النضال الديمقراطي السلمي الجاد.
نواكشوط، 18 ربيع الأول 1436 ـ 9 يناير 2015
المكتب التنفيذي