يبدو أن كثيرا من العيون، في عالمنا الافتراضي، قد ابيضت من الحزن على قتلى عملية "شارلي ابدو"، ويبدو أن بعض الأصوات هنا وهناك، وحتى من خارج عالمنا الافتراضي، قد بدأت تهمس بإدانة هذه العملية، ولذلك فإنه قد يكون من الضروري جدا إضافة ملاحظات جديدة إلى الملاحظات السابقة
التي كنتُ قد نشرتها على عجل في أول مقال أكتبه عن هذه العملية.
الملاحظة الأولى : ليعلم أهل السياسة بأن عدم التعليق على حدث ما هو في حد ذاته موقف سياسي أصيل، ويشكل مثل هذا الموقف الصامت أو المتجاهل لحدث ما مخرجا مهما لأهل السياسة وللمشتغلين بها، خاصة عندما يتعلق الأمر بحدث أو بحادثة في غاية التعقيد، بل ومفخخة، كما هو الحال بالنسبة لعملية "شارلي أبدو"، والتي من الصعب جدا أن يتخذ منها أي حزب سياسي موقفا، وإلا وأصابته بعض شظايا ذلك الموقف.
كان على أهل السياسة في بلادنا أن يعتبروا أنفسهم غير معنيين أصلا بحادثة "شارلي أبدو"، والتي كان يجب أن تظل شأنا فرنسيا داخليا، قتل بموجبه مواطنان فرنسيان اثنى عشر مواطنا فرنسيا.
وإذا كان لابد لأهل السياسية في بلادنا من أن يتخذوا موقفا مُدينا لهذه العملية، فإنه كان من الواجب عليهم في هذه الحالة أن يُحَمِّلوا الحكومة الفرنسية مسؤولية ما حدث، لأنها هي من يتحمل فعلا الجزء الأكبر من المسؤولية فيما حدث. يبقى أن أشير بأن هذا الكلام لا ينطبق على مسلمي فرنسا، ولا على الجاليات المسلمة في فرنسا، فأولئك يبقى من واجبهم أن ينددوا وبقوة بهذه العملية، ولكن كان عليهم أن ينددوا بها لا بصفتهم الدينية، ولكن بوصفهم مواطنين فرنسيين تعرض وطنهم لهزة أمنية كبيرة، أو بوصفهم مهاجرين تعرض البلد الذي يستضيفهم إلى ضربة قوية.
الملاحظة الثانية: أليس من حقنا كمسلمين أن نستغرب من هذه الازدواجية في التعامل مع دماء البشر؟ لقد أصبحت هناك دماء رخيصة جدا، لا تثير الشفقة، وأخرى ثمينة وغالية جدا، ولا يمكن أن تسكب منها قطرة واحدة إلا وكان على الكل في مشارق الأرض وفي مغاربها أن يحزن، وأن يعبر، وبكل وسائل التعبير المتاحة، عن حزنه ذاك.
الصادم في الأمر هو أنه إذا ما ارتكبت الحكومات الغربية مجازر في حق المسلمين، وكثيرا ما ترتكبها، فإننا لا نسمع الكثير من بيانات الإدانة، ولا يحق لنا في هذه الحالة أن نطلب من شعوب تلك الحكومات أن تدين ما ارتكبته حكوماتها من مجازر ضد إخوتنا المسلمين في هذا البلد أو ذاك. أما إذا ما قام شخص أو شخصان لا يمثلان إلا نفسيهما، أو في أحسن الأحوال لا يمثلان إلا منظمة متطرفة كالقاعدة مثلا، تقتل من المسلمين أكثر مما تقتل من المسيحيين، إذا ما قام أولئك الأشخاص بتنفيذ عملية ضد حفنة قليلة من البشر يكون حينها من اللازم على كل فرد مسلم أينما كان أن يدين وبأعلى صوته تلك العملية.
فيا أصحاب القلوب الرحيمة بالله عليكم أخبروني من أين جئتم بهذا المنطق المعوج الذي لا يجيز لنا نحن المسلمين بأن نطلب من الشعوب الغربية أن تدين المجازر التي ترتكبها ضدنا حكوماتها التي تمثلها، وذلك في الوقت الذي يكون فيه من حق الشعوب الغربية وحكوماتها أن تطلب منا نحن المسلمين أن ندين فردا فردا عملية نفذها شخصان أو ثلاثة، لا يمثلون إلا أنفسهم، ولم تتسبب إلا في قتل اثنى عشر شخصا فقط؟
إن أي مسلم في العالم يقبل بأن يستسلم لهذا المنطق المعوج إنما يذل نفسه ويهينها من قبل أن يذله الآخرون.
الملاحظة الثالثة: لقد سمعتُ من يقول بأنه ليس من حقنا أن نتصرف بخطأ عندما يخطئ الآخرون، وإنه علينا كمسلمين أن نبدل السيئة بالحسنة، هذا كلام رائع يستحق أن نصفق له، ولكن عليكم أن تعلموا ـ يا سادة يا كرام ـ بأن هذا الكلام يصح فقط عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين الأفراد، أما إذا ما تعلق الأمر بالعلاقات بين الدول والشعوب فإن إبدال السيئة بالحسنة في هذه الحالة لن يجلب لنا إلا المزيد من الإذلال والاحتقار من طرف تلك الحكومات والشعوب التي قابلنا سيئاتها بالحسنات. ففي التعامل مع الشعوب والحكومات فإنه علينا أن نتعامل بشيء من العزة والندية حتى لا يتم إذلالنا.
الملاحظة الرابعة: هناك من النخب من يقول بأنه لولا ردود الأفعال العاطفية التي يقوم بها المسلمون على الإساءات لما تكررت تلك الإساءات. ويقول هؤلاء بأن الإساءة إلى المسلمين قد أصبحت هي أقصر الطرق إلى الشهرة، فيكفي لأي رسام أو أي كاتب أو أي مخرج سينمائي مغمور، أن يسيء إلى المسلمين بكاريكاتير، أو بفيلم، أو بمقال ليخرج الملايين من المسلمين احتجاجا على تصرفه ذاك فيكسب بذلك شهرة ما كان يحلم بها في حياته. هذا كلام صحيح إلى حد ما، ولكن على أصحاب هذا الرأي أن يعترفوا في المقابل بأنه إذا كانت الاحتجاجات العاطفية التي يقوم بها المسلمون هي التي تعطي للمسيئين شهرة، فإن ردود أفعال النخب، وإداناتهم الواسعة لمثل هذه العمليات التي ينفذها أشخاص لا يمثلون إلا أنفسهم هي التي تعطي للضحايا شهرة واسعة، وهي التي ترفع من سعر دماء الضحايا في أسواق برص المواقف، فنحن بهذا السيل العارم من الإدانات والتعاطف مع قتلى "شارلي أبدو" نرتكب حماقتين اثنتين: أولاهما أننا نرفع من سعر دماء القتلى في بورصة المواقف، وذلك رغم أن دماء قتلى "شارلي أبدو" لو أنصف الدهر لكانت من أرخص وأتفه الدماء التي سالت على الأرض ( واقصد هنا العاملين في الصحيفة فقط). أما ثانيهما : فهي أننا بهذه الإدانات نعطي انطباعا بأننا نتحمل جزءا من المسؤولية فيما حدث، وبأننا شركاء بشكل أو بآخر في هذه العملية، وبأنه علينا لإثبات براءتنا أن ندين هذه العملية بشتى أنواع الإدانة.
الملاحظة الخامسة : لقد تحدث البعض عن "إنسانية" فرنسا وعن حسن ضيافتها، واستدلوا على ذلك بما تأوي فرنسا من المثقفين العرب والمسلمين الذين طردتهم بلدانهم، ومنعتهم بالتالي من العيش الكريم في أوطانهم. هذا أيضا كلام صحيح، ولكن عندما نضع "إنسانية" فرنسا وكرمها في كفة، ونضع ما ارتكبته فرنسا من جرائم في حقنا خلال فترة الاستعمار وما بعد فترة الاستعمار في كفة أخرى لتحول الكرم إلى بخل شديد، وستزداد كفة البخل ثقلا، إذا ما أضفنا إليها دعم فرنسا لحكومات استبدادية ما كان لها أن تحكم لولا دعم الحكومات الغربية لها بما في ذلك الحكومة الفرنسية.
إن فرنسا هي التي تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية فيما حدث، هذا إذا ما صدقنا الرواية الفرنسية لما حدث، أما إذا ما ذهبنا بعيدا وراء الروايات الأخرى فإن فرنسا في هذه الحالة تكون هي المسؤولة لوحدها عما حدث. وبكلمة.
حفظ الله موريتانيا..