يعود أول لقاء لي عن قرب ومعرفة مباشرة بالفقيد الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل ، إلى منتصف عام 2006 أثناء المرحلة الانتقالية الأولى؛ بعد انقلاب أغسطس 2005 على الرئيس السابق معاوية ولد سيد احمد الطايع ، وعودتي من الكويت آخر محطة لي في الغربة، بعد الإمارات العربية المتحدة ، تلك الغربة الطويلة في الخارج التي امتدت عشر سنوات من 1996 إلى 2006.
طبعا كنت مثل الكثيرين الذين يعرفونه أكثر عن بعد كاتبا مرموقا ، و مناضلا سياسيا مشهورا طوف في السجون والمعتقلات في فترات متعددة ، ولكنني اقتربت منه أكثر بمبادرة متحمسة مني شخصيا في هذا العام بالذات 2006، الذي التحقت فيه رسميا هذه المرة بالتلفزة الموريتانية، كصحفي مختص في تقديم البرامج الحوارية والسياسية لمدة تجاوزت خمسة عشر عاما ، في المسابقة العامة التي اجتزنها مع اثنين آخرين هما الأخ الإعلامي المتميز إسحاق ولد المختار رده الله سالما ( المفقود في سوريا منذ سنوات أثناء دخوله إليها مراسلا لقناة سكاي نيوز عربية ) والأخ بيوس ديالو الكاتب والأديب بالفرنسية مدير التكوين حاليا في وزارة الثقافة .
وكنت قد عملت في التلفزيون قبل ذلك مطلع التسعينات، مقدما للبرامج الثقافية كمتربص او متعاون بتعبير آخر، وقد صادفت فترتي الجديدة في التلفزة عام 2006 اجواء الانتقال الديموقراطي الجديد.، فأخذ الإعلام الرسمي يمشي الهوينى قليلا ، محاولا الخروج من قمقم التطبيل وبرامج الرأي الأحادي إلى " ما أمكن " من استنشاق ريح الحرية الإعلامية العابرة ، وإن بحذر شديد وتردد واستحياء واضح في نعت البدايات الأولى .
عندما التحقت بالعمل كنت موضع اهتمام خاص من المدير العام السابق للتلفزة في تلك الفترة حمود ولد امحمد ، وهو رجل ذكي ونشط وصاحب قرارات عملية ،وكنت في تنسيق مباشر معه بخصوص مهامي الجديدة في التلفزة، فعرض علي تقديم البرنامج السياسي الأهم في تلك الفترة الذي انطلق قبلي بأشهر ، وهو برنامج ( الإجماع الوطني ) ، وكان يقدمه آنذاك الصحفي المرحوم "حمو " أحمدو ولد أحمدو مامين، ولكنه التحق قبل قدومي بقليل بالعمل في اول مكتب تفتتحه قناة الجزيرة في نواكشوط ، هو والإعلامية البارزة زينب بنت اربيه ( مديرة المكتب حاليا )، تحت إشراف المدير الجديد لمكتب قناة الجزيرة في نواكشوط، العميد المخضرم محمذن باب ولد اتشفغ ، مدير قطاع الأخبار الأسبق في التلفزيون مطلع التسعينات قبل تقديمه لاستقالته ومغادرته .
كان برنامج ( الإجماع الوطني ) ، الذي سأتولى تقديمه في صيغته الأولى عبارة عن حلقات مسجلة مع قادة بعض الأحزاب السياسية في البلاد ، كل على انفراد وقد استضاف الكثير من رؤساء هذه الأحزاب لاستشراف رؤيتها وتطلعاتها مع العهد الجديد ؛ وكان لا يتجاوز نصف ساعة تقريبا ، وحكر فقط على رؤساء تلك الأحزاب ، التي استضاف أغلب زعمائها ، باستثناء الزعيم احمد ولد داداه ، وبعض الشخصيات الهامة الأخرى في المشهد السياسي ، التي ما زالت مسكونة بعدم الثقة في اعلام السلطة ، ولا تهتم بالبرامج الحوارية المسجلة التي قد يطالها مقص الرقيب ، وهكذا جاءت معظم الوجوه في حلقات البرنامج السابق من رؤساء أحزاب مختلفة ، تعرف منها وتنكر وبعضها لا يتوفر على قاعدة شعبية او حضور في البرلمان، ولا يحمل سوى مجرد وصل الترخيص ، وإن كانت ظهرت فيه اهم قيادات الأحزاب القليلة الموجودة آنذاك، معظمها من الموالاة وقليل منها من المعارضة " الناطحة"، في جهد إعلامي كبير بذله الصحفي القدير حمو رحمه الله الذي توفي بعد ذلك بسنوات ، وقد عرفته أول مرة عند التحاقي الاول بالتلفزة عام 1993، وكان حينها رئيسا لمصلحة البرامج الثقافية حيث عملت تحت إشرافه لمدة سنتين .
طرحت تصوري الجديد للبرنامج على الإدارة العامة للتلفزة ، ومع انه كان مفاجئا لها نوعا ما ؛ فقد وافقت بشجاعة على دعمه وتبنيه في منعطف وطني ما زال ملبدا بالغيوم السياسية ، هذا إضافة إلى تثبيط المثبطين من داخل التلفزيون، الذين ما فتئؤا يخوفون مدراء التلفزيون من اي انفتاح وتغريد خارج السرب بدون " التعليمات السامية " قد يقذف بهم إلى الشارع .
وبعد ولد حمود الاستثناء توارث مدراء التلفزة بعد ذلك هذا التصور البعبع عني جزاهم الله خيرا ، فلم اقدم منذ 2009 حتى أغسطس 2019 ، تاريخ مغادرتي للتلفزة مستقيلا من منصب مدير الثقافية ، أي برنامج (مباشر) على الهواء ، وقد صرح لي أحدهم في العشرية الماضية معتذرا في صحوة ضمير متأخرة ، إنه وجد هذه " الحالة " قبله بتوجيه من "جهة عليا" ، وهو لا يعرف أنني في راحة تامة ، وذلك بعد بعد ان طلب مني إعداد سهرة مفتوحة، لتقييم حصيلة الحكومة في نهاية أحد الأعوام ، سرعان ما امرته تلك " الجهة العليا " بتغيير مقدم البرنامج فقط .!!
واعود فأقول : كانت رؤيتي حول البرنامج سالف الذكر عام 2006، تتلخص فقط في نقطتين لا أكثر :
الأولى : ان يكون برنامجا مباشرا على الهواء صريحا وبلا تابوهات او محذورات
الثانية : ان يخرج من الدائرة الضيقة أحيانا لرؤساء الأحزاب فقط، ليشمل مختلف أطياف النخبة الفكرية والسياسية في البلاد ، في حوارات مباشرة متعددة الأطراف والآراء .
وهكذا بدأت في تجسيد التوجه الجديد للبرنامج ، فاستضفت في أولى حلقاته الأستاذ المرحوم محمد يحظيه ولد ابريد الليل ، في نقاش مباشر على الهواء ،كان اول ظهور حي له على شاشة التلفزة الموريتانية ، وأول مرة يحضر فيها إلى مبنى التلفزة وآخر مرة أيضا ، ليشارك في نقاش سياسي حر مفتوح ومباشر ؛ وهو الذي كان وزيرا للإعلام قبل ان يقارع السلطة والأنظمة المتعاقبة التي رمت به في دهاليز السجون المظلمة .
وأذكر ان موضوع تلك الحلقة كان حول ( مفهوم الدولة ومستقبل الديموقراطية في موريتانيا ) ، وكانت قبيل الانتخابات البرلمانية والبلدية الأولى في المرحلة الانتقالية ، وقد استضفت معه للنقاش السياسي فيها وجهين آخرين بارزين، هما العميد المناضل محمد المصطفى ولد بدر الدين ، الذي كان أيضا - وهذه مفارقة أخرى - اول حضور له في حلقة مباشرة على التلفزة كزعيم معارض؛ رغم أنه نائب برلماني منذ سنة 2001، أما الشخصية الأخرى الهامة في البرنامج، والتي كان هذا هو ظهورها الأول في حوار سياسي مباشر أيضا على الشاشة ، فهو السياسي اللامع ووزير الإعلام والثقافة السابق الأستاذ المحامي آنذاك سيدي محمد ولد محم متعه الله بالصحة والعافية .
اذكر انها كانت ليلة من ليالي السياسة والفكر والحوار العقلاني، في صالونات نواكشوط وانحاء البلاد ، في تلك السهرة المباشرة من ( الإجماع الوطني )؛ التي فتحت عيون وعقول المشاهدين على تحول إعلامي جديد وغير مالوف ، كانت السلطة تراقبه ولا تكاد تستسيغه ، ولكنها تحس انه يخفف شيئا فشيئا من كبت واحتقان اجتماعي وسياسي طويل .
كان إقناع الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل ؛ بالحديث السياسي في التلفزيون، حتى ولو كان مباشرا حرا وبلا رتوش، لا يخلو من صعوبة وطول صبر ، فلم تكن بيننا معرفة حقيقية سابقة ، ولم أكن من شباب الطليعة التقدمية البعثية ، ولكنني شاب متحمس لإضفاء مسحة جديدة على الخطاب الإعلامي الرسمي - مع كل ما سببه لي ذلك من مشاكل كثيرة في التلفزيون، ومع السلطات المتعاقبة - فقمت بزيارات تمهيدية كثيرة لولد ابريد الليل؛ في مقر إقامته بلكصر غير بعيد من سكني ، ولا أخفي أنني قمت باستغلال علاقات شخصية كثيرة؛ بعضها لمقربين منه من أجل إقحام الرجل في "دائرة الضوء" التي يفر منها دائما ، ويعتذر عنها باستمرار مهما كانت مكانة أصحابها عنده ، أما رجلا السياسة الآخران؛ فلم احتج يومها في بداية المشوار، لكبير عناء معهما لاستضافتهما اول مرة ، في حلقة واحدة مع المرحوم ولد ابريد الليل ، فبدر الدين رحمه الله تربطني به - مع أنه شخصية عامة - علاقة قرابة اجتماعية واحدة معروفة ونلتقي باستمرار ، والأستاذ سيدي محمد ولد محم أطال الله عمره ، كنت على صلة وصداقة معه عن قرب ،وازوره في بيته الكريم ، قبل ان تأخذه مشاغل الحياة الجمة في السياسة والمناصب ،عن استمرار التواصل مع امثالنا من المتطفلين على مهنة الإعلام، وإن طال بهم الأمد فيها إلى حين .
كان ولد ابريد الليل رحمه الله وهو يأنس لي ، يلاطفني مرات عدة، وهو يتابع بعض تلك الحوارات السياسية في التلفزيون : (هاذ مهم للمجتمع مهم للمجتمع ، إلعاد لاهي يستمر ، ظاهر لك عنو لاهي يستمر ، الناس اتخرصت اكريب ما اتخرص ابعيد ) فارد عليه : خم! ما السائل بأعلم من المسؤول !، وانا أدرك مغزى وإبعاد تساؤلاته العميقة في مدينة الرياح ومجتمع الرمال المتحركة .
وفي الحلقة الموالية التي استضفت فيها لأول مرة زعيم المعارضة الديموقراطية ورئيس حزب التكتل أحمد ولد داداه - وهي و أخرى أيضا في برنامج ( ضيف الساعة ) من بعده الوحيدتان فقط حتى الآن ، لولد داداه اطال الله عمره في حوار مباشر بالتلفزة- قال لي ولد ابريد الليل رحمه الله بهدوئه الجميل : ( هاذ الا اعل يم ش عاد ، التلفزة الين تنفظ عنها الغبرة؛ أدور تضاح الرؤية أكثر ويتحقق الإجماع الوطني خاصة في مجتمع يشاهد.اكثر مما يقرأ)!! ، وكأنه يريد أن يقول لي بلغة اهل إكيدي التي يتقنها في الكتابة : الأمية ما زالت منتشرة في صفوفنا وخاصة النخبة ، التي لن يسمع صوتها إلا في وسائل الإعلام العمومية ، وإن ظل ذلك الصوت في رايه زمنا طويلا - كما قال لي مرات عديدة- يدور في حلقة مفرغة ، من احادية الرأي والتطبيل فقط ، الذي لا يقدم ولا يؤخر في تطور مجتمعنا الموريتاني، ووعيه المنشود بحاضره ومستقبله قبل ماضيه.
رحم الله الكاتب والمفكر والصديق الأكبر ، حكيم الساحل والصحراء ، محمد يحظيه ولد ابريد الليل ، وأكرم مثواه في جنة البقاء.
بقلم : سيدي ولد أمجاد.