ذات ليلة من ليالي سنه 1973 بعد صدور العملة الوطنية الاوقية ،كنت مع مجموعة من الاصدقاء خارج مدينة نواكشوط وفي طريق العودة اعترضتنا دورية من الحرس الوطني ،يقودها المغفور له بإذن الله اسويدات ول وداد طيب الله ثراه، امرونا بالصعود الى مركباتهم وانزلونا عند ثكنتهم القريبة، لما تجاوزنا البوابة الرئيسية صاح احدهم خذوهم الى لجنة "الاستقبال" وما ادراك ما لجنة الاستقبال: لكمات وضربات بالعصي لا تستثنى عضوا من الجسم مهما كان حساسا، تترصد اكثر الضربات ايلامًا واشدها ايذاءً. وقبل ان نصل الى حفلة "الاستقبال" المخيف أَنقَذنَا صوت فقيد الوطن المرحوم أسويدات ول وداد امرهم ان كُفُّوا عن الشباب، سلِموهم للبوليس ،انتهى دورنا بالقبض عليهم وتسليمهم لمن يهمهم الامر. عندها تنفسنا جميعا الصُّعداء وذهبنا الى مفوضية الشرطة قبالةَ مبنى الاذاعة الوطنية ،يفصِلُ بينهما شارع جمال عبد الناصر. اودعونا اقفاصا ضيقة، ابوابها حديد لا نوافذ لها ولا فراش فيها، ارضيتها ملطخة بما لا يسرُّ الناظرين، يتزاحم فيها الموقوفون من كل الاصناف، بدءً بغلاة المجرمين والمدمنين، وتغشى داخلها سيئَ الحظ روائحُ كريهةٌ تُزكمُ الانفاس، و بتنا انتظارا للعذاب وهو أَشدُ على النَّفسِ من وقوعه.
في الصباح الباكر سمعت صوت امي الحنون تنادي عند المخفر وترجو السماح لها بزيارتي ،منعوها مما تريد قالوا بعد ان اخرجوها عنوةً هذه العجوز تدَّعي دائما انها امٌّ لجميع الكادحين، ما اعتقلنا احدهم ،سواء كان من مواليد الحوظ الشرقي ام اهل الساحل او اهل تيرس او ٱدرار إلا و جاءتنا هذه العجوز تحمل الطعام و الملابس النظيفة لتسلمها "لاولادها" وما اكثرهم عددا، وأضاف كبيرهم مؤكدا انها تُجيدُ حفظ القران الكريم وعندما تصل المفوضية تقول بثبات للمفوض السلام عليكم" قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ " فيجيبها المفوض السابق أَوّاهْ ول لُلَيْد طيب الله ثراه وتجاوز عنه ، "وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ". وفي الحديث المتبادل إِشارةٌ الى قصةِ يوسف عليه السلام وسجنه المعروف. فيجيبها المفوض المرحوم بما ورد في سورة القصص وحيًا الى ام موسى "وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي ..." الى اخر الاية الكريمة. واردف كبيرهم أن والدتي لها سابقة اخرى في مجال الاحتجاج ابان إِعتقال السلطات مجموعة من النساء نظمن وقفة احتجاجية لاطلاق سراح بعض الرفاق المعتقلين. كانت ضمن المقبوض عليهم مريم بنت لحويج اطال الله عمرها والمغفور لها باذن الله السالكة منت اسنيد واختي الشقيقة فاطمة عابدين. جاءت الوالدة المرحومة تحمل بين ذراعيها رضيعا منعوها ظلما من إرضاعه ، وتبارى الجلادون شلت ايديهم في مهمتهم المزرية ! ظلت والدتي غفر الله لها خلال الوقفة تترجى القوم قساة القلوب وتكرر "لاَ تُضَارَ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهْ " توبوا الى الله، يغفر لكم، ان كنتم مسلمين. مكثت ذلك اليوم في زنزانتي وبعد الظهر سمعت جَلَبَةً عند مكتب المفوض غير بعيد من محبسي، نما الى مسمعي صوت المرحوم الإمام بداه ول البصيري طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه، و هو يخاطب المفوض بصوته الجهوري المعهود : اطلقوا سراح ول عابدين ان كان قتل نفسا، اما اذا كان بريئًا فأنتم مرغمون على اخلاء سبيله لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وسيكون خصمكم والله نصيره يوم لا ينفع مال ولا بنون، تقفون جميعا بين يدي الله العزيز الجبّار، لا تنفع معه وساطة ولا سلطة رئيس ولا وزير ، تختصمون امام الله وعنده تجتمع الخصوم! ولما انهى الإمام بداه غفر الله له مرافعته القوية اجابه المفوض سَنُخْلي سبيله ويرجع الى ذويه شمس اليوم، وهو ما حصل بعد ان غادر الإمام بداه. في اليوم الموالي قصدت زيارة الإمام بداه طيب الله ثراه في مسجده بلكصر لأعبر له عن شكري و امتناني لإخراجي من غيبات السجن وبراثين الجلادين. دخلت قاعة التدريس ، وجدته جالسا على "إلويش " منهمكا في الرد على طلابه ومريديه: يفسر اية من القران الكريم لهذا ويشرح بيتا من الشعر لآخر ويدقق سند حديث جوابا لسائل، لا يتوقف طلابه داخلون خارجون ينهلون من بحر علمٍ لا ساحل له. بعد إتمام حصة التدريس شَرَعَ في السؤال عن الأهل يعرفهم بأسمائهم فردا فردا كبيرهم وصغيرهم واسطرد قائلا ما اخبار اصحابك الكادحين وماذا يريدون ؟ بدأت الحديث مُطَأْطِأً الرأس، انظر الأرض لا ارفع ناظري، اجلالا لجليسي الوقور لأقول : نحن نريد الحياة بلا ظالمين. وخصومتنا مع النظام سياسية بامتياز نختلف معه حول تدبير شؤون البلد وعلاقته بالمستعمر ، نود ان يتحرر الناس من نير الجهل والغبن وان يكونوا سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد منهم على أحد وان لا نستعبد البشر بعدما ولدتهم امهاتهم احرارا وأنما يشاع عنا على لسان اهل الحكم باطل ليَسْهُلَ التغلب علينا ويمكنَ عزلنا عن الناس ثم القضاء علينا ليستمر العسف والاستبداد وهو لعمري امر مرتعه وخيم. صمت المرحوم بداه برهة وفكر قليلا وختم حديثه : يا بُنَيَ اَنا من الكادحين لكن لا استطيع اعلان ذلك على الملأ حفاظا على مصالح طلاب المحظرة وخوفا مما قد ينجم عنه من هوان لاهل العلم في هذه الارض كرد السلطات المحتمل على مثل هذا الموقف.
وظل الإمام بداه ول البوصيري طول حياته على مسافة بينة من السلطان لا يحابيه مستمسكا بالعروة الوثقى، يصدح بالحق بعزم وثبات.
كلما تذكرت مواقف الإمام بداه اقول في نفسي بعد الترحم عليه : لو كان لي من الامر شيء لرفعت اسمه فوق اكبر المساجد العامره بالْعُبَادِ "القَائِمِينَ وَ الٰرُكَعِ الْسُجُودِ"، ولسميتُ به الشوارع والساحات ولرفعت من شأنه لأنه يستحق.
في الحلقة الموالية سأروي لكم بحول الله ومشيئته كيف استطاع افراد المهمات الخاصة في عملية معقدة جريئة تهريب احد قادة الكادحين وضمان تنقله بأمان بين مخابئ سرية لمدة طويلة دون ان يُعْثَرَ له على اي اثر وقد اصبح المطلوب الأول لدى أمن النظام، يبحثون عنه في كل مكان.
بقلم : بدن عابدين