إليك أماه بعد عام من الحزن ما كنت أتخيل فيه أن أعيش حياة طبيعة بدونك .. إليك وأنا أتذكر اللحظات الأخيرة عندما لفظتِ أنفاسك الأخيرة وكنت تقرأين القرآن في يوم رمضاني قائظ بمدينة بتلميت الوادعة يوم ودعت الدنيا في ذكرى وداع شهداء بدر فكان الحزن عليك يوم حزن الرسول صللمالله عليه وسلم على عبيدة بن الحارث، وكم كنت تحفظين هذه الغزوة وما كتب عنها البدوي وكم سطرت لنا اسماء شهدائها ما زلت أذكر كلماتك عند كل فزع "شهداء بدر ..."
أماه .. لا جديد بعدك سوى أن عاما من الصبر عشناه في عائلتنا المتعففة كما كانت لكنه الفراغ الذي خلف وداعك ما زال يزداد .. عام من اليتم مضى مرت أيامه ولياليه زاحفة كسلحفاة عرجى نفتقد دعواتك ولا نستيقظ سحرا على زفرات الإيمان ومناجاة رب الأرض السموات وهي كارثة ما بعدها كارثة أن يفقد المرء من كان يستجدي ربه نيابة عنه وهو نائم مستيقظ وفجأة يبقي وحده وهو غارق في سبات ليلي سرمدي!!
عام مضى تسلّحنا خلال أيامه الطوال بالصبر وعلمنا فراقك أن المرء يتأقلم مع مصائب الدنيا مهما بلغ عظمها ففقد الأحبة دورة إيمانية صعبة منها يتخرج المرء عصيا على المآسي صامدا في وجه نكبات الدهر وما أكثرها..
أمي وأنت تكملين عامك الأول في مرقدك الأبدي هل أنبئك بفقد ابنك الأصغر الخليل ولد بابتاح وبطريقة صادمة فجائية بلا مرض ولا سقم؟ كان ذلك أكبر اختبار عشناه بدونك فلا أدري يومها كيف صمدتُ وحاولتُ جاهدا أبتلاع دموعي .. دموع تنهمر وقلب يُكلم ولما تندملْ جروحه النازفة من فقدك..
وفي بتلميت المدينة التي ودعتك فيها قبل تسعة أشهر من الكارثة كانت نظرتي الأخيرة لجثمان شقيقي الذي اتصل بي قبل يومين وهو لا يشتكي سقما ولا مرضا، وكان الوداع الأبدي والحمد لله أن دروسك الإيمانية التي غرستِ فينا جعلتني ـ وبشهادة فرقة الدرك ومن حضروا معنا مستشفى بتلميت ـ أصمد صمود الرجال وأنحج في أصعب امتحان خضته في حياتي.
عام من الحزن المضاعف عشته مع إخوتي (يحظيه ـ اكرامه ـ ميمونه) نعزي أنفسنا بصمود خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو يودع خديجة وأبا طالب في عام واحد فكانت لا تفارقه الأحزان لكنه واثق بنصر الله القادم..
نعم أمي .. أنا حزين عليك وحزين على شقيقي لكني واثق بما عند الله .. متفائل وأرجو أن أظل مبتسما في وجوه الأصدقاء وحتى الشامتين. علمتني الحياة بدونك أن الدنيا بسمات معدودات في وجوه الأحبة، وتعلمت بعدك أن المصائب دروس تكوينية يتخرج المرء منها أشد قوة و أصلب عودا .
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وارحم أسلافنا وأسلاف من مضوا إليك وأحسن خواتمنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير.