كان الجو باردا في الطائرة ـ يقول محمد ولد صلاحي ـ وقد أقدموا على إرغامي على الاضطجاع على أريكة أظنها غالبا كانت على الأرض، وقد أحسست أن أحدهم ألقى علي رداء خفيفا لكنه كان مريحا بالنسبة لي .
ذهب بي التفكير بعيدا وكان من أكثر الأشياء التي فكرت فيها أفرادا من عائلتي لن يرونوني أبدا وسيعتصرهم الألم، لذلك كنت ابكي في صمت دون أن تقطر لدي دمعة واحدة لأن كل الدموع التي كانت في المآقي وجدت طريقه للخروج منها عند بداية رحلة الجحيم والتي كانت بطعم الإحساس بالسكن ما بين حدود الموت والحياة.
كان الندم يعتصر قلبي وأنا أعيش الندم على كل فعل مشين أقدمت عليه اتجاه عائلتي أو عصيت به أمر ربي أو فعلته اتجاه أي كان.كان تفكيري في جوهره يدور حول الحياة في سجن أمريكي وكانت صور العديد من الأفلام الوثائقية التي رأيتها في حياتي والتي تصف العيش في تلك المؤسسات الأمريكية تمر أمام ناظري، وخصوصا قسوة جلاديهم وشدة الأفعال التي يقدمون عليها وكنت أتمنى في خاطري أن أكون أعمى أو مصابا بعاهة لكي أكون ـ على الأقل ـ في منأى عن المعاملات الخشنة ولكي أعامل معاملة تليق بالإنسان الذي هو أنا.
كنت تحت غطائه الرقيق ذلك على الأريكة في الطائرة أتخيل أول لقاء لي بقاض في دولة كان العداء للإسلام قد أعمى عيون الكثيرين من سكانها وأتساءل : هل سأكون محظوظا لأجد عريضة اتهام عادلة ؟ هل حكم علي من قبل حتى أن أجلب إلى هنا؟ هل ستكون لدي فرصة الدفاع عن نفسي .
... تحت حرارة الغطاء تركت نفسي تسبح في آلام فظيعة، كانت لدي رغبة طافحة في التبول ولم يكن يمنعني وأنا الذي وضعت لي الحفاظة سوى القدرة على إقناع نظامي العصبي بالسماح للمثانة بالإفراغ وكلما حاولت بأقصى ما أملك من الجهد كلما استطاع هو توقيف المثانة عن تلبية رغبتي الطافحة في التبول.
كان الحراس في جانبي يصرون في كل لحظة على إجباري على الشرب عبر انبوب مائي وهو الشيء الذي لن يصلح إلا تعقيد الوضعية عندي، وكنت مرغما على ابتلاعه أو نفثه وفي كل مرة حاولت فيها تغيير وضعية اضطجاعي كانت يد عنيفة وخشنة تردني إلى الوضعية الأولى.
عندما لاحظت أني استقل طائرة كبيرة، كنت في المقابل أظن تماما أن وجهتي القادمة هي الولايات المتحدة الأمريكية، لكن بعد 5 ساعات من التحليق أحسست أن الطائرة شرعت في الهبوط على مدرج مطار ما، وتساءلت أين نحن الآن؟ هل نحن في ألمانيا ؟ في رامساين؟ نعم نحن في رامستاين هناك توجد قاعدة جوية أمريكية كبيرة ومن المؤكد أن الطائرة توقفت هنا للتزود بالوقود حيث أن الطائرات الأمريكية القادمة من أو الذاهبة إلى الشرق الأوسط تتوقف عادة في "رامستين"، هناك أيضا أقدم حراسي على تغيير قيودي من قيودي حديدية إلى قيود بلاستكية آلمني كثيرا خلال مشوارنا القصير جدا من الطائرة إلى مروحية كانت في مدرج المطار.
.... فور خروجي من الطائرة لاحظت وقع يد أحد الحراس يربت على كتفي كأنما يريد أن يقول لي إن الأمور كلها ستسير بخير، وهو ما أعطاني الأمل ـ رغم الفزع الكبير الذي يجتاحني ـ أن من بين المسؤولين عن اعتقالي من لا تزال فيه بقايا إنسانية.
وعاد إلى خاطري نفس السؤال أين أنا ؟ نعم أنا في ألمانيا كنا في يوليو وفي ألمانيا تكون الشمس حارقة طيلة هذه الفترة من العام، لكن لماذا أنا في هذه الدولة؟ أي فعل مخالف للقانون ارتكبته هنا ؟ أي فعل مشين ألصقوه بي هؤلاء؟لكن مع ذلك كان النظام القضائي الألماني أكثر ملاءمة لي فعلي الأقل أعرف الإجراءات وأتقن اللغة، وهو أيضا أكثر شفافية ولا يقبل الأحكام القاسية التي تصل حدود الـ200 والـ300 سنة، سوف أري قاضيا يوجه لي التهم التي توجهها لي الحكومة وسأكون في حجز مؤقت في انتظار انتهاء المسطرة ولن أجد معاملة سيئة ولن أرى الوجوه الخشنة للجلادين.
دقيقتان بعد ذلك، حطت المروحية وأجلست في شاحنة بين حارسين ، كان السائق وأحد جيرانه يتحدثان لغة لم اسمعها من قبل، إلا أنني قلت في نفسي ربما هي الفلبينية، هل نحن في الفلبين؟، وقد جالت الفلبين في خاطري لأنني كنت أعلم أن الجيش الأمريكي كان حاضرا بقوة في الفلبين نعم نحن دون شك في الفلبين، فأي اتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية أنجزوا بخصوصي وأي تهمة تنتظرني هنا ؟ماذا ستكون أسئلة القاضي الفلبيني؟ وفي النهاية قلت لنفسي مهما تكن الوجهة فلنصل لأي مكان لكي أستريح، وفي ذلك الخضم صحت في تفكيري قائلا لنصل بسرعة واقتلوني إن كان ذلك يعجبكم.
نزلت من الشاحنة بعد رحلة دامت 5 دقائق في ما قدرت أنه ممر، وقد أرغمني على النظر إلى الأسفل بقوة يدي أحد الحراس، وبعد برهة أمراني بالبقاء حيث تركاني في انتظار أن يأتياني، وفي انتظار ذلك لم أعد أحس بأي شيء يثقل كاهلي وقد أطلقت البول من مثانتي كما لم أطلقه في حياتي فأحسست براحة لم أجدها طيلة حياتي وكأنني أطلق سراحي وأرجعت إلى دياري وبكل الفجائية ضحكت من قلبي في صمت وكأن كل أحزاني اختفت فجأة ولا أحد لاحظ ذلك.
ويضيف ولد صلاحي :" بعد ربع ساعة جاء بعض الحراس وأخذاني إلى غرفة يبدو أنها كانت ممرا للكثير من المعتقلين من أمثالي وقد أزالوا عني عصابتي وكانت آلامي حادة في منطقة الأذنين والجمجمة، وفي الحقيقة كنت أظن أن جسدي كله يكيد لي وبالكاد استطعت أن أبقى قائما. بدأ الحراس الأمريكيون في نزع ملابسي عني وفي لحظات سأجدني عاريا كما ولدتني أمي.كانت المرة الأولى التي أرى فيها جنودا أمريكيين بلحومهم وعظامهم وليس على شاشة التلفاز، وقد حاولت أن أستر بيدي الأماكن الحساسة من جسدي وأنا أردد بصوت خافت دعاء المحنة "يا حي يا قيوم" ولا أحد من الحاضرين حاول منعي عن ما أفعل، إلا أن أحد الحراس الذي كانت نظراته مليئة بالحقد والكراهية أمرني بالإقلاع عن النظر في زوايا الغرفة.
جاء الطبيب .....( الاسم مسح من النسخة بسبب الرقيب الأمريكي )، لمعاينتي وقد أجرى لي فحصا كاملا، بعد ذلك رموا لي ملابس أفغانية، فقلت في نفسي رائع هنالك ملابس أفغانية في الفلبين، وطبعا كنت مقيد الأيدي والأرجل وقد وضعوا على أيدي قفازات وقد كنت في كامل الاستعداد إلا أنني لا أعرف لم أنا مستعد؟.
يستطرد ولد صلاحي في حديثه عن هذه الرحلة حين يتحدث عن وصوله إلى غرفة للتحقيق غير بعيدا من الغرفة الأولى حيث أرجعت العصابة لعينيه وفور دخولها القاعة سمع صوت رمي الأغراض على الحائط وفي هذه الجلبة ألقيت عليه اسئلة من قبيل أين أسامة بن لادن؟ أين الملا عمر؟ أين جهاد الدين حقاني ؟، ويؤكد ولد صلاحي أنه فكر بكل سرعة في هذه الأسئلة خصوصا وأن الأشخاص الذين سئل عنهم كانوا قبل فترة قليلة يديرون دولا والآن صاروا مطلوبين وهاربين لكن محققي نسوا شيئين اثنين، أولهما أنهم أخبروني بالجديد بالنسبة لي وهو أن أفغانستان احتلت من قبل الأمريكيين ولو كان قادتها البارزون ما يزالون مطلوبين من قبل الأمريكيين. ولأنني كنت مع بداية إعلان الحرب على الارهاب معتقلا في أحد السجون الأردنية منقطعا بشكل كامل عن العالم ولم أكن أعلم أن امريكا احتلت أفغانستان وأن قادتها قد هربوا إلى وجهة مجهولة فقد كان جوابي ببساطة لا أعرف.
صاح بي أحدهم بعربية ممزقة أنت كذاب فأجبته لا أكذب لقد كنت معتقلا ولا أعرف إلا أبو حفص.
ـ لا بد من أن احقق مع ولد.... هذا كما يفعل الإسرائليون صاح أحدهم
ـ وكيف يفعلون يسأل آخر؟
ـ يعرونهم من ملابسهم ويطرحون عليهم السئلة
ـ لم لا يصيح آخر.
يتواصل...
ترجمة صحيفة الفجر الموريتانية