تفنن تنظيم "داعش" في السادية، وأبدع في التوحش والجاهلية، بإقدامه على قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا، في مشهد مسح طاولة أبشع عمليات القتل في التاريخ البشري كله، ولونها بلون النار هذه المرة..!!
لم يعد تقطيع الناس أحياء حتى الموت، ولا استعمال "المثاقب" الكهربائية لإزهاق الأرواح، ولا حتى إلقاء الشخص في حوض من حمض "الآسيد" لإذابة روحه وعظامه، ولا إلقاؤه من عل، لم تعد تلك الطرق مناسبة في نظر "الدواعش"، أما الذبح، وإطلاق الرصاص عدة مرات على الضحايا، وتقطيع أوصالهم، فقد أصبحت طرق قتل تقليدية متجاوزة في الأدبيات الدموية للتنظيم الذي وصل اليوم إلى ذروة دمويته وتوحشه، وتجاوزه لكل الخطوط الحمراء دينيا وإنسانيا وأخلاقيا..!!
لم يرع "الداعشيون" إلا ولا ذمة فى معاذ الكساسبة، الضابط الطيار الشاب العربي المسلم، فلم يرحموا شبابه، ولم يلقوا بالا لانتمائه للعرب ولا للمسلمين، ولا للبشرية وكأنهم أرادوا إرسال رسالة نارية، مفادها أن مصير كل من سيحاربهم سيكون مظلما وكريها ودمويا، حتى لو كان من بني جلدتهم ودينهم الذي يزعمون الدفاع عنه..!!
ومن الواضح أن الوجه الآخر للرسالة هو الذي وصل، وهو وجه يستبطن ضعف التنظيم، وتخبطه وارتباكه، وانتحاره دينيا وعسكريا وسياسيا، فطريقة قتل الكساسبة أوضحت أن التنظيم لم يعد مسيطرا على أعصابه، فهذه ردة فعل تنم عن الهزيمة والإحباط والتخبط، ولا تدل أبدا على القوة والانتصار والطمأنينة.
صحيح أن "داعش" تنظيم خرج من رحم ظلم بواح تعرض له السنة في مثلث العراق وسوريا ولبنان، وأن ذلك ما أكسبه تعاطف بعضهم هروبا من ذلك الظلم الذي شمل القتل والتهجير والتهميش السياسي والاقتصادي، ولكن مع مرور الوقت ظهر أن التنظيم لا يقيم وزنا لأية انتماءات مذهبية أو سياسية، فشعاره القتل الأعمى، فالخراب الذي خلفه في مناطق السنة في العراق وسوريا، ليس أقل من الخراب الذي خلفه في كل المناطق الأخرى التي وصلت إليها خريطة امتداده الثعبانية شكلا الدموية مضمونا.
لا دين يقر القتل بتلك الطريقة البشعة التي ظهرت فى التسجيل المصور المنسوب للتنظيم، وطبعا لا يقرها قانون ولا عرف، وهي طريقة جاهلية همجية عمياء متوحشة ،لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال.
والواقع أن عنوان الشريط حمل خطأ مطبعيا ـ بحجم كل الأخطاء الأخرى للتنظيم ـ فما رأيناه ليس "شفاء" للصدور، بل هو "شواء" للصدور والأكباد والقلوب، وهو محرقة للإنسانية وقيمها الجميلة من رحمة وعفو وتسامح.
إن هذا الشريط القذر وسع جبهة أعداء "داعش" حتى بين العرب والمسلمين السنة، فقد أزاح الغشاوة عن أبصار بعضهم، فبدا لهم التنظيم على حقيقته إذ أنه مجموعة ميليشيات تمارس القتل والنهب والابتزاز باسم الدين الإسلامي، الذي تبرهن كل يوم على بعدها عنه، ومحاولتها لتشويه وجهه الجميل.
نعم كان من بيننا من راهن على "داعش" وبارك تعاون ضباط عراقيين بعثيين من الجيش العراقي السابق معها، باعتبارها جبهة متقدمة لمواجهة المد الشيعي الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، وحماية أهل السنة الذين تخطفهم الموت والتهجير والتدمير بأذرعة باطشة لميليشيات طائفية شيعية إيرانية الدعم و التأطير والتسليح والولاء، وكان طبيعيا أن يهب أولئك الضباط خريجوا مدرسة الشهيد القائد صدام حسين لنصرة أهلهم العرب السنة، و"فرملة" التوسع الإيراني في المنطقة وفاء لعقيدتهم السياسية وتقاليدهم العسكرية القومية العريقة، غير أن الأيام أثبتت أن الرهان على "داعش" هو رهان خاسر، فلا قلوب لهؤلاء ولا رأفة ولا شفقة حتى بإخوتهم في الدين والنسب والوطن.
اليوم يبدو جليا أنه لا خيار أمام العرب والمسلمين ـ ولا أقول أمريكا ولا دول التحالف ـ إلا مواجهة التنظيمات المسلحة، وفق مقاربة تعتمد الحوار والمراجعات الفكرية، والاهتمام بالفئات المهمشة، وتنمية الأقاليم المنسية اقتصاديا ،والالتفات نحو الشباب المحبط، وإقامة نظم حكامة عادلة، تفرض المساواة والفرص المتكافئة ، ثم ـ وكخيار أخيرـ وفق مقاربة أمنية واضحة ومجمع عليها عربية الوجه واليد واللسان، إذا لم تثبت تلك الطرق السلمية الحضارية جدوائيتها.
وإذا كانت "داعش" حرقت الكساسبة، فإن حكومة الأردن حفرت له القبر بمشاركتها في حرب تقودها أمريكا وغيرها من القوى المستكبرة في العالم، والتي لا تريد الخير للعرب والمسلمين، وتسعى لضرب بعضهم ببعض، ولا تفرق بين متطرف ومعتدل، فالمهم أن يتفانوا تحت طائراتها لتتولى السيطرة على الثروات والمنافذ الإستراتيجية في العالم لا أقل ولا أكثر. وإذا نجحت "داعش" في إقامة أي شكل من أشكال الدولة، فإن أمريكا وحلفاءها لن يترددوا في مد جسور التعاون معها، فليست لهم عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، ولكن لديهم مصالح دائمة.
وقد كان عارا أن تسخر الدول العربية سلاحها ونفطها وشبابها لدك مواقع بها رجال عرب ومدن عربية وثروات عربية، مهما كانت اليافطة التي تتحرك تحتها، ولربما كان "الدواعش" يريدون ـ من بين أمور أخرى ـ تحذير الشباب العربي ـ عن طريق حرق الكساسبة ـ وتخويفهم لثنيهم عن ارتكاب حماقة الحرب تحت لواء أمريكا ،والتي ليست أفضل من "داعش" بالنسبة للعرب والمسلمين ومستقبلهم في العالم، ولربما كانت "نار" داعش أرحم بهم من "جنة" أمريكا ..!!
إن الدرس الذي على الأردنيين والعرب والمسلمين استخلاصه من مناظر "الشواء" الفظيعة هو أنه عليهم محاربة الإرهاب بكل مسمياته بما فيها "القاعدة" و"داعش"، ولكن بشراكة عربية خالصة ،وليس بالتنسيق مع أمريكا وحلفائها، فالعرب يجب أن يقتتلوا أو يتصالحوا أو يتفانوا تحت خيمتهم، وليس برعاية من أمريكا وحلفائها، الذين يجب أن يواجهوا السلاح العربي بعد فراغه من محاربة الإرهاب أيا كانت تسمياته، ومهما كانت الجهات الراعية له.
إن طائرات أمريكا وحلفائها تدمر كل شيء في العراق وسوريا ،وليست لديها قنابل ذكية ولايهمها أن تحدد أن هذا شيعي، أو هذا سني، أو هذا من "داعش"، أو مواطن مدني أعزل... إنها تقتل البشر وتدمر الحجر وتقتلع الشجر، فتحت نيرانها يوحد "الشواء" أجساد العرب والكرد ، والمسلمين سنة وشيعة، والمسيحيين بمختلف طوائفهم، وتستباح مدنهم وقراهم وثرواتهم، دون وازع أو رادع، وبمبررات أوهن من بيت العنكبوت ..!!
إن تزويد تلك الطائرات بالوقود العربي والحرب العربية تحت قيادتها جريمة في حق كل الشعوب العربية والإسلامية.
نحارب "داعش" نعم، ولكن ليس بأوامر من أمريكا وحلفائها، فهم لا يفرقون ـ وقت القصف ـ بين "داعشي" وبائع خبز بلدي.
رحم الله معاذ الكساسبة، فمنظر النار وهي تلتهمه سيلاحق باللعنة كل "الدواعش" الذين قتلوه جهلا بالدين، وكفرا بالقيم الإنسانية، والحكومة الأردنية التي قتلته بغبائها السياسي والأمني. وعمالتها الوراثية لأمريكا وحلفائها، وغاية الغباء أن يعتقد ملك الأردن أن إعدام امرأة عربية مسلمة مهما كانت جريرتها وبما يستبطنه من ضعف ونذالة وخروج على قيم الشهامة العربية هو انتقام رجولي من قتلة طياره الشهيد..!!