لم تعد ضرورة وجود الحس الأمني مقتصرة على المعنيين بالحفاظ على الأمن فقط (الجيوش وقوات الأمن)، بل صارت مطلبا يجب توفره في الجميع.
نظرا للتحديات الأمنية والمخاطر العابرة للحدود وغير التقليدية والتي يصعب إدراكها وحتى تصورها، خصوصا في ظل وجود العولمة في كل تجلياتها المختلفة، والتي من أهمها غياب الحواجز الجغرافية والزمانية.
ونظرا لكل ما سبق فإن تقوية الحس الأمني الموجود أصلا لدى أفراد القوات المسلحة وقوات الأمن، يعتبر مطلبا في منتهى الأهمية بل ويجب مده بروافد جديدة وغير تقليدية تتركز في المجمل على تقوية الحاسة السادسة، والعمل على خلق رؤيا جديدة تعتمد المقدرة على التحليل السريع، والفهم العميق من خلال معطيات محدودة جدا لا تكفي في الأحوال العادية لفهم أمر ما أو حتى أخذ تصور عنه. وهو ما يعطي للقائمين على الأمن عموما مقدرة خاصة تتمثل في تجسيد فكرة الأمن الوقائي والذي يتمثل في الحيلولة دون وقوع التهديد الأمني أصلا، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم الأحكام المسبقة، أو الفهم المتسرع أو الخوف غير المبرر أو الحد من حرية الآخرين المكفولة بقوة القانون، وهو أمر يتطلب قدرات ذهنية "غير تقليدية" تتركز في الفهم السريع والدقيق والعميق، من خلال أقل المعطيات وفي لحظات قليلة. وسنعالج الموضوع من خلال المحاور التالية:
الفهم والتصور:
من المعلوم أن فهم أي شخص لأي أمر أو مشهد يتوقف على جميع خبراته السابقة للحدث، النظري منها والواقعي. ومن خلال عبور المشهد أو الحدث إلى وعي الفرد عن طريق المشاهدة أو عن طريق السمع فإنه سيفهمه من خلال استقراء سريع ومقارنة كلما يشاهده مع ما تحويه ذاكرته ووعيه من مشاهد وخبرات، تعطيه في النهاية فهما لما يشاهده، ثم يضاف المشهد ويخزن مع ما سبقه من مشاهد وأحداث خلال عمر الفرد. وهكذا يتكرر الأمر في الثانية الواحدة عشرات بل مئات المرات، وهذا كله نقطة في بحر مما يحويه عقل وفكر الإنسان، ويدل كله على عظمة الخالق جل جلاله.
وبعد أخذ فكرة موجزة عن طريقة الفهم فإن الأمر في الوقت الحالي يجب أن ينظر إليه على أنه حاصل ما سبق مضروب في مليارات المرات، لأن الفرد حاليا عرضة لكم يصعب تخيله من معلومات ومشاهد وأحداث، منها ما هو مشاهد بشكل مباشر نظراً لكثرة التجمعات الحضرية، ومنها ما هو عن طريق الوسائط المختلفة والتي تحاكي الواقع وقد تكون جزءا منه، عندما ينتقل شخص عبر القنوات الفضائية من قارة إلى أخرى خلال ثوان مثلا، وهو ما يؤدي بالفرد إلى التخلص الدائم من المشاهد من خلال عملية شبه غريزية تهدف إلى ترك الوعي يواجه ما يشكل خطرا فعليا على حياة الفرد في تلك اللحظة، مثل عبوره لشارع مزدحم بالسيارات المسرعة، فليس من المنطقي مطالبته بعد دقيقة من عبوره الشارع بوصف ملامح الشخص الجالس في المقاعد الخلفية للسيارة الرابعة في الرتل الذي خففت السيارة الموجودة في مقدمته سرعتها ليعبر الشارع. بينما يحتفظ البدوي في عقله ووعيه بشكل وقع خف بعير على صحراء قاحلة ولسنوات عديدة، لأنه وبكل بساطة يتعرض لمشاهد قليلة جدا تجعله يحتفظ بها ولو من باب الفضول والفراغ.
وكل هذا يجعل عملية الفهم والاستنباط في الوقت الحالي يكتنفها الكثير من العقبات والتي قد تصل إلى حد انعدامها ولو جزئيا، وقد يتصادف وجود هذه الحالة مع لحظة تشكل خطرا محدقا ثم يمر رفقة تيار جارف من المشاهد والأحداث المعتادة أصلا والمتكررة لحد أن تكون مملة.
ولكي يبقى الحس الأمني على حاله رغم كل العوائق والموانع مع تدعيمه بالحاسة السادسة عبر استنهاضها فإن الأمر يتطلب عدة طرق من أهمها:
1- ثقافة الأشياء
هي ثقافة خاصة جدا أو نوع من ترتيب المعارف وتخزينها في الذاكرة بشكل يسهل عملية استرجاعها وهي ثقافة موسوعية شاملة ومختصرة حصيلتها معرفة شبه تامة بكل ما يشكل المحيط الخارجي المتغير وتشمل معرفة الأوضاع الطبيعية للأشياء والأوقات والفصول، والفوارق الدقيقة بينما هو عادي وغير عادي، وهذه الثقافة عند اكتسابها وجعلها عفوية لدى القائمين على الأمن، فإنها تمكن من استخدام أقل المعطيات للحصول على أكبر النتائح وأكثرها أهمية ما دامت توظف المعلومات والمعطيات المخزنة في الذاكرة بطريقة خاصة وعفوية وبعيدة كل البعد عن أي مظهر يوحي بأن الفرد يمتلك قدرات خارقة، حتى ولو كانت على شكل حديث داخلي مع النفس، لأن هذا المنحى يفقد العملية جزءا كبيرا من فاعليتها وتتحول إلى مجرد فضول سلبي.
2- الاستشراف الفوري والسريع
يعتبر الاستشراف قراءة منطقية للأحداث والمواقف والتصرفات، الفردي منها والجماعي، وحتى على مستوى الدول. فعن طريق الاستشراف يمكن التنبؤ بمسار حدث معين سواء كان فرديا أو جماعيا وحتى دوليا، ويكون الاستشراف عن طريق استعراض الكثير من الأحداث ومقارنتها مع الحدث الأخير، ثم القيام بعملية قياس سريعة والخروج بنتيجة تكون عبارة عن التصور المنطقي للحدث ومساره ومآلاته. وعند بلوغ الحدث مجاله النهائي تقارن النتيجة مع ما كان متوقعا، ثم معرفة مدى مطابقة التوقع للواقع، وذلك بكل دقة وتجرد، ثم تقاس درجة التوقع والاستشراف وما هي الإضافات التي تضاف إليها والعملية تكون بشكل مستمر دون أن تكون هي النشاط الذهني الوحيد للقائمين على الأمن، بل جزءا يسيرا منه، يكمل أجزاء أخرى كلها مجتمعة تؤدي إلى تحفيز الحاسة السادسة واستنهاضها بشكل دائم وعفوي.
3: نقطة الوسط
وتعني بقاء القائمين على الأمن في نقطة وسط بين التحفز الدائم والاسترخاء التام، وذلك لأن التحفز الدائم يفضي بصاحبه إلى حالة من الإرهاق النفسي خصوصا إذا لم يصادف أي تهديد أمني حقيقي خلال فترة طويلة، فيترك جانب اليقظة والاستعداد الدائم كردة فعل طبيعية على حالة الاستعداد التي كان يعيشها، وهو ما يؤدي به إلى الابتعاد نهائيا عن مهمته الأساسية، وهي الاستعداد لمواجهة أي تهديد أمني مباشر والتعامل معه قبل وقوعه والحيلولة دون وقوعه أصلا.
أما الاسترخاء الدائم فيقضي تماما على الحس الأمني لأنه نتيجة لقياس خاطئ وفي غير محله، يبنى على تصور مفاده أن القائم على الأمن لم يصادف أي تهديد خلال فترة معينة، وبالتالي يبنى قياسه على هذا الأساس في حين أن لكل ثانية في الوقت الحالي بنيتها المستقلة عن الثانية السابقة لها، نظرا لانعدام مفهوم الزمن والمسافة في الوقت الحالي، بفعل سرعة التواصل والتنقل وطرق التفكير.
ولكي يكون القائم على الأمن عموما في نقطة الوسط بين التحفز الدائم والاسترخاء التام، عليه أن يمزج بينهما بطريقة لا تغلب أحدهم على الآخر، وهو ما يكسبه طريقة في التفكير والتحليل الأمني بعيدة عن التوتر والاسترخاء التام.
4: الحدود الواضحة
وتتمثل في وضع حد فاصل بين المشاعر الشخصية والعمل الأمني، بحيث يكون الشخص القائم على الأمن في حالة نفسية متزنة تمكنه من القيام بمهمته على أحسن وجه، وذلك عن طريق استبعاد المشاعر الشخصية والحكم الشخصي على الأشياء، فيعتمد طريقة في الحكم على الأمور وفهمها من خلال رؤية تهدف إلى تحقيق هدفه النبيل دون الإضرار بمن لا تنطبق عليه صفة تجعله يهدد الأمن فعلا، وهو ما يؤدي به إلى اكتساب عقلية خاصة جدا مهمتها حفظ أمن الجميع دون ارتكاب خطأ في حق أي أحد.
وانطلاقا مما سبق، نخلص إلى أن الحس الأمني حاليا يجب أن يكون حسا خاصا جدا أقرب إلى الحاسة السادسة منه إلى أي شيء آخر حتى يتمكن القائمون على الأمن من القيام بمهمتهم المقدسة والنبيلة على أكمل وجه وأتمه، خصوصا في ظل وجود العولمة وتحدياتها المختلفة، وغير التقليدية وحتى غير المتصورة.
-محمدن ولد عبد القادر