تحليل: صار من المبدأ العام لجوء الناس إلى استخدام العنف بغية حلّ النزاعات فيما بينهم حول مصالح معينة. وهذا ينطبق على مملكة الحيوانات كلِّها، تلك التي لا يستطيع الإنسان فَصْلَ نفسه عنها. لكن مما لا شكَّ فيه أنه، بالنسبة إلى الإنسان، تحدث أيضًا صراعاتٌ في الرأي، صراعات قد تصل إلى أعلى درجات التجرد، وتبدو وكأنها تقتضي أسلوبًا آخر لحلِّها بيد أن ذلك تعقيد يأتي فيما بعد.
فمنذ البداية، كانت الثورة الأزوادية القوة المتفوقة هي التي تقرر، بين أفراد شعبها، لِمَن تعود ملكية الأشياء أو مَن ينبغي أن يسيطر على الشرعية. كما يغدو الفائز مَن يملك السلاح الأفضل، أو مَن يستخدمه استخدامًا أبرع. ومنذ اللحظة التي بدأ فيها الصراع الأزوادي، بدأ التفوق الكذبي تقريبًا يحلُّ محلَّ القوة الفكرية؛ لكن غاية القتال النهائية بقيت هي ذاتها أن يُجبَر هذا الطرفُ أو ذاك على التخلِّي عن دعواه أو اعتراضه، وذلك بإيقاع الضرر به وتحطيم قوته. وكانت تلك الغاية تتحقق على أتم وجه إذا ما استطاع عنف المنتصر أن يقضي على خصمه قضاء مبرمًا، أي أن يقتله. فلهذا العمل ميزتان: أولاهما أنه لن يستطيع تجديد مقاومته، والثانية أن مصيره سيمنع الآخرين من احتذاء مثاله. زِدْ على ذلك أن قتل الخصم يُرضي ميلاً غريزيًّا. فنيَّة القتل يمكن لفكرة أخرى أن تقابلها، هي أن الخصم يمكن أن يُستخدَم لتأدية خدمات مفيدة إذا ما أُبْقِيَ على قيد الحياة وفي حالة شديدة من الضعف والذعر، في هذه الحالة يقنع عنف المنتصر بإخضاع الخصم بدلاً من قتله. وهذه هي البداية الأولى لفكرة الإبقاء على حياة الخصم. لكنْ، فيما بعد، تعيَّن على المنتصر أن يأخذ في حسبانه تعطُّش الخصم المنهزم إلى الانتقام وأن يضحِّي بشيء من أمانه.
هكذا إذن هي الحالة الأصلية للأشياء السيادة لِمَن يمتلك القوة الأكبر، السيادة للقوة الوحشية أو للعنف الذي يدعمه التفكير. لكن ما هو ذلك الطريق؟ باعتقادي أنه كان واحدًا فقط: إنه الحقيقة التي تجلَّت لناظر القضية الأزوادية، وهي أن القوة التي يتفوقون بها فيما بينهم واحد يمكن أن ينافسها اتحادُ قوى لعدد من أفراد جلدته بالأساليب ذاتها، ويستهدف الغايات ذاتها. الفارق الحقيقي الوحيد يكمن في أن المشكلة لم تعدْ لعنف الفرد، بل لعنف الجماعة. لكنْ، لكي يكون بالإمكان الانتقال من العنف إلى هذا الحق الجديد أو العدالة الجديدة، كان لا بدَّ من تحقيق شرط سيكولوجي. هذا الشرط هو أن تكون وحدة الأكثرية ثابتة ودائمة. إذ أن علَّة وجود هذه الوحدة كانت فقط مواجهة فرد مسيطر واحد، ثم أُلغِيَتْ بعد هزيمته، فسيكون الأمر وكأن شيئًا لم يكن. ذلك أن أول مَن يجد في نفسه القوة الكافية سيسعى مرة أخرى إلى فَرْضِ هيمنته عن طريق العنف، وستتكرر اللعبة ذاتُها إلى ما لا نهاية. بهذا لا بدَّ للجماعة من أن تدعم باستمرار وأن تنظِّم وأن تضع الأنظمةَ التي تتوقع مسبقًا خطر التمرد؛ كما تعيَّن عليها أن تقيم الجهات التي تشرف على تطبيق تلك الأنظمة والقوانين.
هنا على ما أعتقد، تتوفر لدينا النقاط الجوهرية كلُّها: يتم التغلب على العنف بانتقال القوة إلى وحدة أكبر؛ وهذه الوحدة يتحقق تماسكُها بقيام روابط عاطفية بين أفرادها. ما يمكن قوله بعد ذلك ليس أكثر من توسيع وتكرار لهذا.
غير أن الموقف يكون بسيطًا وواضحًا مادام الشعب مؤلَّفا من عدد من الأفراد من ذوي الفكرة الواحدة المتساوية فقط ارتباط كهذا يثبت بالمدى الذي يتعيَّن على كلِّ فرد فيه انْ كان لا بدَّ من ضمان سلامة حياته ولن يتنازل عن حريته الشخصية، محوِّلاً قوته إلى دماره. لكن حالة مريحة من هذا النوع يمكن فهمها نظريًّا فقط. فعلى صعيد الواقع، نجد أن الوضع يتعقد نظرًا لأن الصراع، من البداية ذاتها، يتألَّف من عناصر غير متساوية القوة، ونتيجة أي حرب أو غزو، لابد أن تضم منتصرين ومهزومين، يتحولون إلى ناجح وخاسر. ويصبح ما حدث انتقالٌ حقيقي للقوة ضمن النجاح، مثلما قد يحدث نتيجة لعدد من العوامل في تلك الحالة، قد يتكيف النصر تدريجيًّا مع التوزع الجديد للقوة، أو كما يحدث في الأغلب، تمتنع الطبقةُ الناجحة عن الاعتراف بالتغير، فيعقب ذلك تمردٌ وحرب أهلية.
* كاتب وناشط أزوادي