أنا، أيها الرئيس، أمُّ إسحاق: فلذة الكبد التائه في سجون أرض كنعان. لما أتاك الركب طالبين النجدة، استبشرت فقلت:
“يا ولدي، لا تحزن،
فالحب عليك هو المكتوب”.
لما أتاك القوم بحثا عن مخرج لولدي، قلت في مناجاة ليلية حزينة: رغم أن “فنجانك دنيا مرعبةٌ
وحياتك أسفارٌ وحروب”، فإن في أرضنا من سيهتم بك أخيرا، وسيبدد الكوابيس من دنيا نومي المرعب المخيف.
سمعت، أيها الرئيس، أنك تفهم أنين الأم المكلومة، وأنك تعرف أنني، في قرارة نفسي، مسجونة منذ سنوات في زنزانة ضيقة مع ولدي وهو لا يعلم.. لا يعلم أنني أسامره في عتمة الليل، أبتسم إذا ابتسم متهكما على خمول حكومات بلاده، أبكي كلما بكى من فرط الوحشة، أمهّد له الفراش المتقعر، أضع الوسادة تحت رأسه إذا أتعبه الجلوس في خلوة الرهبان، وتارة، تارة فقط أمازحه وأذكّره بطيش الأطفال وقهقهات المراهقين أمام خيمتنا حين كنت، وإياه، في أطيب عيش. أقول له: لا تكتئب، فحبيبة أنسك، رغم طغيان الحراس، موجودة إلى جانبك إلى الأبد.. لا تبتئس ولا تجزع من حرقة الفراق، فحبيبة عمرك ستظل هنا غارقة معك في الوساوس والأتراح.. لا تنهزم أمام عاصفة الكمد والأشجان “فحبيبة قلبك، يا ولدي
نائمةٌ في قصرٍ مرصود
والقصر كبيرٌ يا ولدي
وكلابٌ تحرسه.. وجنود”.
أيها الرئيس المفضال المنعام، من لي بمن يُذهِب عنا الحَزَن! من يهاجم الحراس ويفرق من حولنا الجنود! من يدخل عنوة ليفك أسرنا!.. أنا، في أحاسيسي، مسجونة في زنزانة ولدي أنتظر البطل المقدام، صاحب البسالة والكبرياء، القادر على دخول حجرتنا الضيقة وإخراجنا من الوحل، نعم، مسجونة مع ولدي، أناجيه في وحدتنا، أشكو الرجال المخبولين في المَهْمَهِ الشنقيطي.. كل حياتي شكوى أخفيها في لفائف سجائر السجانين المتطرفين، أداعب الولد الغائب-الحاضر ثم أشكو، أسائله وأشكو، أحدثه وأشكو، أصمت وأشكو، أستيقظ وأشكو، أنام وأشكو.. أقول في دجى الليل: يا ولدي أين المنقذ المخَلّص؟ “وأميرة قلبك نائمةٌ:
من يدخل حجرتها مفقود
من يدنو من سور حديقتها مفقود
من حاول فك ضفائرها
يا ولدي
مفقودٌ.. مفقودْ”.
أيها الرئيس، أنا أمّ إسحاق، الصحفي اللامع المهذب الوديع، أبحث فيك عن شهم يعرف كيف يرحم الأسارى، وكيف يفك قيد المظلومين.. أبحث فيك عن عقل راجح يعرف دبلوماسية التفاوض مع ممارسي الخطف وهواة التشريد.. أنت، يا سيدي، أملي بعد أن هشمتني معاول الحزن، وبعد أن جف الريق وتبعثرت كلمات التلهف والتوق والحنين، وبعد أن ابتعدتُ قليلا وأسندتُ رأسي إلى حجر موحش في ركن من زنزانة ولدي، وأنشدته، بتمتمة من الوَجد الصوفي:
“بصّرت ونجّمت كثيراً
لكني لم أقرأ أبداً
فنجاناً يشبه فنجانك
لم أعرف أبداً، يا ولدي،
أحزاناً تشبه أحزانك”.