كما يحدث كل عام، في مواسم الامتحانات الوطنية، شغلت التهانئ بالنجاح في البكالوريا الوطنية، عطلة الأسبوع المنصرم، أغلب مواقع التواصل الاجتماعي، حيث دخل جل التلاميذ سباقا لانتقاء اكثر الكلمات تعبيرا عن التهنئة والفرحة والحبور، بنجاح إخوانهم وزملائهم، وشمل السباق، كالعادة، انتقاء أفضل الأدعية المأثورة والمبتدعة، بالتوفيق والسداد والفوز بكل مرغوب، كما نالت الصور التذكارية، مع الأهل، أو مع زملاء الفصل، أو مع الأساتذة والمصححين، ما يناسبها من مساحات في ماراتوت التهانئ السنوي..
ربما، لو لم تكن نسبة النجاح المعلنة، متواضعة ومخيبة للآمال، حين لم تتجاوز (8%) الثمانية بالمائة، لكان من الوارد أن تتحول التهانئ بها إلى مهرجانات وحفلات وقصائد، وبرامج،؛ لكن النسبة كانت الأدنى مغاربيا، إذ بلغت نسبة النجاح : 74% في ليبيا، وبلغت 68,43% في المغرب، و61,17% في الجزائر، و57,52% في تونس.. وكانت نسبتنا كذلك الادنى في غرب إفريقيا، وفي الساحل، حيث كانت نسبة النجاح في السنغال 44,65% وكانت في مالي 50% وفي النيجر 29,24%، ومانت في غينيا كناكري 35% وفي بنين 64,42%، وفي ساحل العاج 29,24%...
ذاك الوجه المرعب لواقع منظومتنا التعليمية، وقد استحالت مخاضة فساد منتنة، بلا معالم هادية، سار فيها مجتمعنا العقود تلو العقود، خبط عشواء، بلا غاية أو منهج أو آلية تحقق هدفا ما؛ أما الوحه الآخر للكارثة التي تحولت إلى مأساة وطنية، فهو أنها نتاج أربعة عقود كاملة من تخبط النظم الحبرية الغبية، التي جرت الدولة والمحتمع بسلاسل الإكراه، إلى عصور السائبة، حيث لا دولة، ولا مجتمع، ولا قوانين ناظمة ملزمة؛ ومن العبث في وضع تلك بعض معالمه، الحديث عن تعليم ناجح ناحع؛ مالم تتهيأ له ظروف إصلاح تنهي عقود الفساد، وتغسل أدران العشر الشداد، وتجعلها خاتمة لعصر الفساد ومعاول الهدم والاستبداد.
إنها معاول النظم الانقلابية التي استباخت البلاد، سلما وحربا، منذ أزيد من أربعة عقود من الزمن، فعاجلت بمعاولها أسس ودعامات المنظومة التعليمية الوطنية، والتي كانت ما تزال في طور التشكل، يوم العاشر يوليو 1978، وفي غلول الانقلاب بدأت المنظومة الهشة مسيرة التفكك والتصدع، بل والتساقط كسفا، على رؤوس الأجيال المتعاقبة، قبل أن تنهار بالكامل، كما هو واقعها اليوم.
تلك خلاصة سوداوية بلا شك، لكن تقييمات كل المحللين والمتابعين، تنتهي إليها، ولا يكاد يختلف عليها الخبراء من القطاع المعني، ولا الأطر والأساتذة والمعلمون، فضلا عن القيادات النقابية المهنية، والتلاميذ ومنظمات آبائهم؛ فهي لذلك تصلح، على رغم سوداويتها، منطلقا وأرضية صالحة للإقلاع الآمن نحو إزالة ركام، الكارثة، وترميم المنظومة المتهالكة، وإعادة البناء على أسس تستجيب للمتطلبات والآمال الوطنية، برؤية تضع في الحسبان ما يداعب الخيال الجمعي من أمل عريض، في القطيعة مع العهود العسكرية..
سيكون في مقدمة ضمانات النجاعة المطلوبة للتدابير اللازمة، العاجلة والمتوسطة والبعيدة، الضرورية لتجاوز أزمة التعليم، الانطلاق من مجموعة مسلمات، بمثابة شروط، تعيد العدل والانسجام إلى القطاعات الوطنية المتخصصة، وتلغي الفوارق المفتعلة بين المدارس والكليات والمعاهد، وتحترم التخصص، وتحل الأستاذ والمعلم مواقع استحقاقية، تحعله، ماديا ومعنويا، الأفضل وضعا من بين موظفي الدولة على الإطلاق. ... ومن أبرز الشروط الملزمة، بعد تلك التي تقررت سلفا، ويتوقع ان ترى النور مع الافتتاح المقبل، كحصرية السنة الأولى في المدرسة العمومية، وكتوحيد الزي المدرسي، نا يلي:
- إلزامية اللغة العربية، كلغة تدريس حصرية لمختلف المواد التعليمية، مع إفرار عدد من اللغات الأجنبية الحية، في المنهج، لتدريسها كلغات، لا للتدريس بها..
- اشتراط شهادة تخرج من مدارس التكوين المتوسطة أو العليا، في أي اكتتاب مستقبلي للمعلمين والأساتذة، مع تكثيف دورات تكوين سريعة لصالح مقدمي خدمات التعليم، ممن أثبتوا جدارتهم بالمهام الموكلة اليهم..
- الإلغاء الفوري لما يسمى مدارس الامتياز، في كل مستوياتها، طريقا إلى إرساء عدالة مفقودة في توزيع الاهتمام واللوازم المدرسية والكتب، فضلا عن الاساتذة والمعلمين...
- عودة الثانويات والإعداديات العسكرية، إلى إشراف القطاع المكلف بالتربية والتعليم؛ ورفع الوصاية العسكرية عن المدرسة العليا متعددة التخصصات، لتعود إلى وضعها الطبيعي بين
مكونات منظومة التعليم العالي.
- وأخيرا، وليس آخرا، فإن المواطن المتطلع إلى الإصلح، يجب أن يلمس قطيعة حقيقية وكانلة مع الماضي الكريه المسؤول عن هذه الكارثة، وذلك على كافة الصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلا معنى لمخاولة إصلاح منظومة تعليمية، في ظل الظروف التي دمرتها...