فديريكا سايني فاسانوتي* - تكثف روسيا تنافسها مع الولايات المتحدة في إفريقيا. وفي سباقهما غير المتكافئ، تستخدم روسيا شكلياً فاعلين خصوصيين لكنهم في الواقع مرتبطون بالدولة مثل شركة الأمن الخاصة "فاغنر" وشركة "وكالة أبحاث الإنترنت" (IRA) سيئة السمعة التي يوجد مقرها في سان بطرسبرج وتوصف بأنها "مزرعة ذباب إلكتروني". وكلتاهما تشكل تهديدا كبيرا للديمقراطية وسيادة القانون في إفريقيا وخارجها.
يمثل دافع الكرملين في إستراتيجيته الإفريقية في المقام الأول الرغبة في إحباط أهداف السياسة الأمريكية، بغض النظر عن مضمونها تقريبا. وإذ يعتبر إفريقيا "إحدى أولويات السياسة الخارجية الروسية" يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضا إلى ضمان أشكال من التبعية الإفريقية في مجال التسليح، والوصول إلى الموارد الإفريقية، مستهدفا البلدان التي لديها حكومات هشة ولكنها غالبا ما تكون غنية بالمواد الخام المهمة، مثل النفط والذهب والماس واليورانيوم، والمنغنيز. وتدّعي شركات الأمن الخاصة الروسية مثل مجموعة فاغنر معالجة النزاعات العسكرية والإرهابية المحلية المعقدة التي واجهتها الحكومات الإفريقية. كما أنها توفر لهذه الحكومات القدرة على تنفيذ عمليات لمكافحة التمرد ومكافحة الإرهاب غير مقيدة بمسؤوليات حقوق الإنسان على عكس الولايات المتحدة [!!] وهو ما يسمح للحكومات الإفريقية باستعمال الأساليب الوحشية في جهودها العسكرية كما تشاء. وفي المقابل، تسعى روسيا لأخذ الثمن عبر امتيازات في الموارد الطبيعية والعقود التجارية الكبيرة، أو الوصول إلى المواقع الاستراتيجية مثل القواعد الجوية أو الموانئ.
استراتيجية موسكو للحرب الهجينة في إفريقيا
منذ عام 2006، سعى بوتين إلى إعادة بناء وجود روسيا ودورها في إفريقيا، بعد أن ضعفا بشكل كبير بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991. وبين عامي 2015 و2019، وقعت موسكو 19 اتفاقية تعاون عسكري مع حكومات إفريقية. وركز التعاون في جزء كبير منه على مبيعات الأسلحة الروسية.
لكن الأهم من ذلك، أن توسع نفوذ روسيا في إفريقيا تمحور حول استخدام شركات الأمن الخاصة لتقديم التدريب على مكافحة التمرد ومكافحة الإرهاب وتقديم المشورة للحكومات المحلية التي تواجه النزعات القتالية. وهذا التوسع في وجود روسيا في جميع أنحاء القارة يجري رغم كونها جرّمت منذ مارس 2018 أعمال المرتزقة بموجب المادة 359 من قانونها الجنائي. وفضلاً عن تجنب الخسائر العسكرية الروسية الرسمية، وما يترتب عليها من الغضب العام ضد عمليات نشر القوات في الخارج والإشراف عليها، يمنح المتعاقدون الأمنيون الخصوصيون الكرملين فرصة معقولة لإنكار المسؤولية. فموسكو تتنصل من أي قيادة وسيطرة عليهم لتبرئ نفسها من تصرفاتهم الإشكالية مثل الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان وإساءة معاملة المدنيين. كما أنهم يوفرون أدوات وكيلة للمواجهات العسكرية مع الولايات المتحدة دون تورط القوات الروسية بشكل مباشر. ففي عام 2018، اشتبك نحو 300 متعاقد من مجموعة فاغنر، على سبيل المثال، مع قوات العمليات الخاصة الأمريكية في دير الزور بسوريا. وبالإضافة إلى دعم الحكومات المتحالفة مع موسكو، يوفر المتعاقدون الروس أيضا مصدر استخبارات للكرملين.
استخدام روسيا للمرتزقة لتعزيز مطامح موسكو له جذور تعود لعام 1990 عندما شرعت شركات الأمن الخاصة الروسية، مثل مجموعة "موران" الأمنية و"الفيلق السلافي" في تقديم الخدمات الأمنية لرجال الأعمال الروس في إفريقيا. ومع ذلك، فإن نقطة التحول الرئيسية في استخدام موسكو المنهجي للجهات الأمنية الخاصة المرتبطة بالكرملين كانت عام 2014، عندما فرض الغرب عقوبات على روسيا لضمها شبه جزيرة القرم وزعزعتها الاستقرار في دونباس. ومجموعة فاغنر -التي أسسها ضابط سابق في قوات العمليات الخاصة في مديرية الاستخبارات الرئيسية بهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة بروسيا الاتحادية (GRU)- أدت دورا بارزا في عمليات أوكرانيا، وهكذا أعطت الكرملين صورة عن قدراتها وفائدتها للمناورة في أماكن أخرى من العالم. وعلى غرار "وكالة أبحاث الإنترنت"، تفيد تقارير أن مجموعة فاغنر يمولها أحد الطبقة القليلة المتنفذة المرتبطة بالكرملين وهو يفغيني بريغوزين.
مجموعة فاغنر في إفريقيا
في السنوات الأخيرة، جرى نشر متعاقدي مجموعة فاغنر في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا، بما في ذلك سوريا واليمن وليبيا والسودان وموزمبيق ومدغشقر وجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، مع التركيز بشكل أساسي على حماية النخب الحاكمة أو الصاعدة إلى الحكم والبنى التحتية الحيوية.
في عام 2017 على سبيل المثال، نشرت مجموعة فاغنر حوالي 500 رجل لإخماد الانتفاضات المحلية ضد حكومة الدكتاتور السوداني عمر البشير. وعلى سبيل التعويض، حصل بريجوزين على حقوق حصرية لتعدين الذهب في السودان وذلك من خلال شركته "إم-إنفست" (M-Invest). وقبل الإطاحة به في أبريل 2019، عرض البشير قاعدة بحرية على البحر الأحمر على موسكو.
وفي جمهورية إفريقيا الوسطى، تولت مجموعة فاغنر تدعيم أركان الحكومة الضعيفة للرئيس فوستين أرشانج تواديرا، الذي يمتد حكمه قليلا إلى ما وراء العاصمة، ضد مختلف الجماعات المتمردة منذ عام 2018. وتزامن وصولها إلى إفريقيا الوسطى مع شركة مرتبطة ببريجوزين حصلت على امتيازات لتعدين الماس والذهب. وتعرضت شركة الأمن الروسية على نطاق واسع لاتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ومضايقة قوات حفظ السلام والصحفيين وعمال الإغاثة والأقليات. ويضع وجود فاغنر حكومة وسط إفريقيا على خلاف مع الأمم المتحدة والحكومات الغربية، التي تطالب أكثر فأكثر بأن تنهي جمهورية وسط إفريقيا تعاملها مع الشركة الروسية وإلا فإنها تخاطر بفقدان مساعدتها. وفي ديسمبر علَّق الاتحاد الأوروبي مهمة التدريب العسكري في البلاد.
موقع ليبيا الجيوستراتيجي على ساحل البحر الأبيض المتوسط ونفطها ومواردها الطبيعية الأخرى جذبت هي بدورها موسكو والشركات الأمنية الخاصة الروسية المرتبطة بالكرملين. فمع النفاذ إلى ميناء واحد فقط في البحر الأبيض المتوسط في منشأة طرطوس بسوريا، لا يمكن للوجود العسكري الروسي في المنطقة أن يضاهي القوة البحرية الدائمة لحلف الناتو في البحر الأبيض المتوسط (ستانافورمد) ولا الأسطول السادس التابع للبحرية الأمريكية في نابولي. لكن مجموعة فاغنر من خلال الانخراط في الحرب الأهلية المستمرة نشرت وحدات في ليبيا في 2019 دعما لزعيم الحرب خليفة حفتر خلال هجومه على العاصمة طرابلس. وما قدمته مجموعة فاغنر من المشورة والمساعدة والقدرات التدريبية ومن استعمال وسائل عشوائية مثل تلغيم المناطق المدنية، ساعد حفتر في السيطرة على بعض حقول النفط الليبية. وعلى غرار مجموعات المرتزقة والميليشيات الأجنبية الأخرى التي تنشط في البلاد، تجاهلت مجموعة فاغنر مطالب مؤتمر برلين برعاية الأمم المتحدة بالمغادرة. وقد تنصلت روسيا من أي مسؤولية عن تصرفات مجموعة فاغنر في ليبيا وتأثيراتها الضارة على جهود وساطة السلام التابعة للأمم المتحدة.
ومنذ عام 2017، بدأ تمرد حركة الشباب في موزمبيق في اجتياح مقاطعة كابو ديلغادو الشمالية في البلاد. وأمام عجز الحكومة عن وقف توسع حركة الشباب تعاقدت مع مجموعة فاغنر من أجل مكافحة التمرد في خريف عام 2019 من خلال توسيع عقدها السابق المتعلق بتوفير الحراسة لرئيس موزمبيق. ومع ذلك، ونظرا لعجزها عن فهم التمرد المحلي والقوات العسكرية المحلية التي كان عليها التعاون معها فقد مُنيت عمليات مجموعة فاغنر بفشل هائل.
ومن بين أحدث عمليات نشر مجموعة فاغنر المثيرة للقلق في إفريقيا نجد مالي، حيث ما زال المتشددون الإسلاميون أقوياء وتظل الحكومة ضعيفة وغير خاضعة للمساءلة. وتنشط مجموعة معقدة من الجماعات الإرهابية المتشددة الكثيرة وحركات الطوارق المحلية وغيرها من الحركات المطالبة بالحكم الذاتي في البلاد. ومن ضمن ذلك مجموعات خطيرة منتمية لتنظيم القاعدة في الساحل مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) وكذلك الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (IS-GS). وتنخرط فرنسا عسكريا في مالي منذ عام 2013 بدعم من دول أوروبية أخرى ومن الولايات المتحدة وكذلك دول إفريقية في إطار مجموعة العمل المشتركة لدول الساحل الخيس (G5) لكنها لم تحقق أي هزيمة حاسمة للمتشددين. وبعد أن أرهقها مستنقع الحكم ومكافحة التمرد، قررت فرنسا خفض عدد قواتها العاملة هناك بالنصف إلى 2500 جندي في عام 2022. والمجلس العسكري الذي استولى على السلطة في أغسطس 2020، والذي يظل ضعيفاً بالفعل، يتجه إلى الروس. فمقابل النفاذ إلى مناجم اليورانيوم والماس والذهب كمكافآت محتملة، جاء نشر 1000 متعاقد من مجموعة فاغنر لتدريب الجنود الماليين وحماية المسؤولين الحكوميين في البلاد. وفي مواجهة كل من الضغوط الغربية والاحتجاج المحلي نفت الحكومة المالية في أواخر ديسمبر أي وجود لمجموعة فاغنر. ومن شأن مثل هذا الوجود أن يقوض بشدة استدامة وفعالية عمليات الدعم الغربي المقدم لمكافحة التمرد ومكافحة الإرهاب، كما يحتمل أن يؤدي إلى مزيد من تدهور أوضاع حقوق الإنسان في مالي.
حملات التضليل
إن حرب روسيا الهجينة والمنخفضة التكلفة في إفريقيا والمنافسة مع الولايات المتحدة وحلفائها تتجاوز المجال العسكري إلى تكتيكات التضليل. ففي إفريقيا، كما في أي مكان آخر في العالم بما في ذلك الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية 2016 يسعى الفاعلون في الدعاية والتضليل مثل "وكالة أبحاث الإنترنت" إلى إشعال الصراع الاجتماعي داخل المجتمعات وتقويض دعمها للديمقراطية. وقد سعت "وكالة أبحاث الإنترنت" إلى التلاعب بالانتخابات الرئاسية في مدغشقر عام 2018، على سبيل المثال. وفي الوقت نفسه في مالي، تتهم "وكالة أبحاث الإنترنت" عمليات مكافحة التمرد الفرنسية بأنها واجهة لاستغلال مناجم اليورانيوم المحلية.
ولمواجهة تصرفاتهم الإشكالية، فرضت واشنطن عقوبات ضد الأفراد والكيانات المرتبطة بمجموعة فاغنر و"وكالة أبحاث الإنترنت"، كما حذا الاتحاد الأوروبي حذوها. ومع ذلك، وكما هو الحال مع العقوبات المفروضة على المسؤولين الروس، لم تؤد هذه العقوبات إلى تغييرات ذات أهمية في السلوك.
ورغم انتقادات الأمم المتحدة والغرب لسلوك مجموعة فاغنر في إفريقيا والتهديدات بعواقب مالية غربية على الحكومات الإفريقية التي توظف شركة الأمن الروسية وتسمح لها بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات المدنية، فمن المرجح جداً أن مجموعة فاغنر -بتشجيع من الكرملين وتنفيذاً لصفقاتها- ستبقى في إفريقيا. ومن غير المرجح أن تغير العقوبات ذلك. لكن إخفاقات مجموعة فاغنر والآثار العكسية لجهودها قد تقلل مع الوقت من جاذبيتها لدى الحكومات الإفريقية.
* باحثة رئيسية غير مقيمة في مركز الأمن والإستراتيجية والتكنولوجيا بمعهد بروكينز (الولايات المتحدة) - نُشر المقال بتاريخ: 08-02-2022.
ترجمة وتحرير: الشروق ميديا