لا يَتوقع القارئ في القصة العربية عادةً شخصياتٍ عاملة، إنما ينتهي أفق انتظاره عند سيداتٍ عاطلات وآنسات بائرات، ورباتٍ للبيوت قد بَرَعْنَ في الثرثرات، وأطفالٍ مدللين قد تخطفت عقولَهم الشاشات، وعشاقٍ حالمين في زمن يخلو من الحب والثبات، وطلابٍ فاشلين في مدارس كأنها غير معنية بتربية الأولاد والبنات، وشبابٍ طائشين في شوارع كأنها صممت للضياع، وآباءٍ متقاعدين في بيوت يسكنها الخواء، وربما يطالع بعضَ الموظفين المطحونين وتجارًا أو مديري أعمال وفنانين... ومهربين ومدمنين.
أما هذا الإنسان البسيط الذي تسحقه آلة الحياة بلا رحمة فلا يواجهها إلا بمزيد من الإصرار والصبر والدأب على العمل والإنجاز، فلا يكاد يظهر في الصورة إلا ضئيلا أو متواريًا عن الأنظار، فهو ليس معدنًا للإنسانية التي يبحث عنها الكتاب.. ربما لعدم جاذبيته فهو إنسان بائس لا يستدعي وضعُه بهجةَ القراء.. أو لأنه - بطبعه أو لخوفه - لا يريد إثارة المشاكل، ويؤثر الانزواء والانطواء على نفسه في دوامة مآسيه ومشكلاته اليومية المتجددة.
وفي معظم الصور المتفرقة التي تعكس حالات من الظهور الباهت لشخصية العامل في السرد العربي، لا يكاد القارئ يطالع سوى إشارات هامشية وسريعة؛ فمن الحكايات العائلية الواقعية التي لا تعطي في العادة إلا صورة نمطية لعمال منهمكين في أعمالهم إلى درجة إهمال واجباتهم في البيت، ومنهمكين في شئونهم المنزلية إلى حد التقصير تجاه واجباتهم في العمل، إلى الحكايات البطولية والعجائبية التي قلما تتسع لهموم العامل ومعاناته وصراعاته، يظل العامل دائما الشخصية المنسية في أحسن الأحوال، والأكثر عرضة للإهانة والسحق والتجاهل في عوالم متخيلة قلما تزيد فيها نسبة المبالغة الأدبية عن حد الواقع والممكن.
وبين هذه وتلك، عبر الصحراء العربية الممتدة، تعلو جدران التآمر غير المعلن بين إرادية المال ولا إرادية الجمال.. بين غائية أرباب العمل ولا مبالاة أرباب الخيال، ليظل الموت قَدَرًا على صورة العامل ومهيمنًا عليها في السرد العربي، مهما تعددت أسباب الموت وألوانه ودرجاته، ومهما تباينت مساحات السرد وامتداداته وإطناباته عبر وجهات نظر الفواعل النصيين.
يبدو أن ليس ثمة أمام العامل في القصة العربية إذن سوى الموتِ منسيًا في عوالم أخيلة الأدباء، في نوع من التعبير الرمزي الصامت عن معنى الموت الذي يواجهه على أرض أوطانه بلا ملاذ في العراء، أو الموتِ مشردًا عبر الحدود بينها في الصحراء، وإلا خارج الحدود بين أنياب القرش هروبا من وطأة الجوع والإعياء، إلى شواطئ الفردوس المفقود الذي لا يكاد يصل إلى شيء منه إلا بارتعاشة يده العاملة المستكِدَّة العَجفاء.
بقلم الدكتور المختار الجيلاني.