قام نقيب المحامين الموريتانيين السابق محمد سالم ولد بوحبيني بخلع عباءة المحاماة أمام رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز خلال افتتاحه للسنة القضائية 2015 احتجاجاً على انعدام العدالة في موريتانيا.
ووضع ولد بوحبيني عباءته مرفقة ببيان حول وضعية العدالة المزرية على المنصة التي يجلس عليها رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز و وزير العدل وعدد من القضاة
وهذا نص البيان :
مـــــأزق العدالـــــة منذ 2008
(مشـــــاركـــــة في افتتـــــاح السنـــــة القضـــــائيـــــة)
السيد الرئيس،
إنكم تدشنون اليوم (ليس بقصر العدالة كما هي العادة، ولكن بقصر المؤتمرات) فعاليات الجلسات العلنية لافتتاح السنة القضائية 2015 في ظرف يطبعه تراجعٌ للعدالة لم تزل وتيرتــه في هبوط متسارع منذ سنة 2008 عندما وصلتم إلى السلطة.
معكم الحق تماما، سيادة الرئيس، فبالفعل يجدر بنا أن نتوقف، خصوصا اليوم، لنعيد وضع عملكم في قطاع العدالة في سياقه الحقيقي.
لقد حان الوقت، أكثر من أي وقت مضى، لرفع كل لبس بشأن أدنى شك في الرقابة التي تمارسها السلطة التنفيذية على العدالة منذ 2008.
لا شك أن مشاركتكم اليوم، وفي الظرف الحالي، مع مهنيي العدالة تدل على الإرادة في تقاسم متاعب عالم العدالة إزاء التراجع المتسق لحقوق الإنسان في البلد، والذي أكدته تقارير منظمة العفو الدولية خلال السنوات الأخيرة.
إنكم تتقاسمون معهم متاعب عالم العدالة إزاء مرتبتـنا الـ 138 في تصنيف منظمة الشفافية الدولية، وكذلك مرتبتـنا الأقل تشريفا في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال.
إجمالا، فإنه من أجل إعطاء حضوركم بين ظهرانينا دلالتــــــه الحقيقية، فإنكم هنا اليوم، سيادة الرئيس، بغية أن تتقاسموا معنا متاعب وخيبة أمل أولئك الذين يطمحون إلى دولة قانون، إلى عدالة مستقلة، إلى فصل للسلطات، إلى سيادة القانون، إلى ترقية وحماية حقوق الإنسان.
رغم ذلك، ينبغي أن نعترف لكم، سيادة الرئيس:
إما بشجاعة خارقة تدفعكم إلى المجيء لمشاهدة حجم الخسائر، والحصيلة المـشينة لقطاع العدالة، وفشل سياسات السنوات السبع الأخيرة، وإما بازدراء بلغ أقصى حد له، مع علمكم أن أي أحد لا يستطيع أن يرفع أصبعـه.
أي شجاعة، سيادة الرئيس، تلك التي تحدوكم وأنتم تأتون اليوم لتقفوا وجه الوجه أمام هؤلاء القضاة الذين يطالبون، عبثا، منذ 2008، بإعادة النظر في ظروف تقاعدهم وظروفهم المادية (لم يسجل أي تحسن منذ 2008، بل عكسا لذلك منعوا من بعض الاستفادات الضرورية لممارسة مهامهم رغم أنها منحت قبل سنة 2008: السيارة، السائق، البواب، السكرتير، المسكن).
أية شجاعة، سيادة الرئيس، هذه التي تدفعكم اليوم إلى التوجه إلى كتاب الضبط الذين يطالبون منذ سنوات بنظام أساسي قانوني، كما يطالبون بترقياتهم، بما فيها الترقيات داخل الأسلاك.
أية شجاعة هذه التي تدفعكم إلى مخاطبة العمال غير الدائمين الذين يطالبون منذ سنوات بمعالجة وضعهم.
أية شجاعة هذه التي تدفعكم، في هذا الظرف، إلى مخاطبة العـُـدول المنفذين الذين يطالبون، منذ زمن بعيد، بوصاية أقل من لدن النيابة في ممارسة عملهم اليومي.
أية شجاعة هذه التي تدفعكم إلى مخاطبة خبراء القضاء اللاهثين وراء مهنة منظمة، ذات مصداقية وأقل خضوعا لوصاية القضاة، كما أخبــِــرتم به عدة مرات.
أية شجاعة هذه التي تدفعكم لمخاطبة الشرطة: ذلك العنصر الآخر من هذه اللوحة من مهنيي العدالة التي أذقتموها الإذلال، بيد أنها تقوم بعمل رائع في ظروف جد صعبة.
أية شجاعة، سيادة الرئيس، تلك التي تدفعكم اليوم إلى مخاطبة المتقاضين الذين أكد تحقيق ممول من طرف الاتحاد الأوربي حول تعاطيهم مع العدالة أن:
أكثر من 82% منهم يفضلون اللجوء إلى طرق بديلة عن العدالة للبت في نزاعاتهم بسبب انعدام ثقتهم فيها؛
69% منهم يعتبرون أن الرشوة واستغلال النفوذ ينخران جسم العدالة؛
74% منهم يعتبرون أن وسائل العدالة وبنيتها التحتية ناقصة؛
%79،2 يعتبرون العدالة منحازة.
أية شجاعة هذه التي تدفعكم إلى مخاطبة متقاضين ممنوعين من الحصول على العدالة والمساواة أمام هذا المرفق العمومي بسبب غياب نظام عون قضائي نحن وحدنا في العالم من لم يضعه. لقد بقيت الطلبات المتكررة حبرا على ورق بالرغم من ترسانة قانونية مكتملة تقريبا.
أية شجاعة هذه التي تدفعكم إلى مخاطبة مواطنين، مدافعين عن حقوق الإنسان، صحفيين، رجال أعمال، طلاب مطحونين من قبل النظام القضائي، شهود على الاستخدام السيئ للعدالة من أجل تصفية الحسابات السياسية، ضحايا عدالتكم المتعسفة والقمعية على نحو أعمى.
سيادة الرئيس، إذا حاولتم، من خلال هذه الفعاليات، منح مصداقية لفكرة مفادها أنكم تهتمون بقطاع العدالة، فقد جانبتم الصواب لأن الوقائع تبرهن على أنه اهتمام ظرفي.
بكل جراءة، جئتم للقاء كل هؤلاء في هذه القاعة المهيبة التي لم يتغيب عنها غير السجناء الذين يذكــرونكم بمطالبهم الدائمة: تحسين ظروف حبسهم في سجونهم المكتظة، تخفيف الفترة المحددة للحبس التحكمى الذي يبلغ تارة أربع سنوات، مع الغياب التام لبرامج التأهيل.
إنهم يذكــّـرونكم بضرورة تسوية وضع أولئك الذين حـُـولوا إلى ألاك وبير أم اڮـرين، وأولئك الذين رُحــّــلوا إلى مكان ما في الفيافي البعيدة ( إن عجز السلطات عن ضمان أمن سجن مّا لا يخفف من الطابع غير القانوني لهذا الإجراء) في خرق للتعهدات التي قطعتها موريتانيا على نفسها أمام الأمم المتحدة إبان الاستعراض الدوري الشامل في يناير 2012، فضلا عن أن موريتانيا صادقت على المعاهدة الدولية لحماية كل الأشخاص من الاختفاء القسري.
كما يذكــّـرونكم، سيدي الرئيس، بقبول احتضان مواطنينا في غوانتانامو الذين ينتظرون، يائسين، قرارا بقبول تحويلهم إلى موريتانيا.
السيد الرئيس، من خلال حضوركم اليوم لهذا الحفل العلني، فإنكم تدعوننا إلى استنكار الوضع الذي تخصصون لمن يحيطون بكم في هذه القاعة إبان هذا الحفل الرسمي بغية إكمال لوحة العدالة القاتمة.
نعم، ففي الحقيقة أن من يحيطون بكم في هذا الحفل الافتتاحي لم ينجــُــوا من المعاناة التي تعيشها العدالة اليوم في بلادنا.
لا يمكن لرئيس المحكمة العليا أن يعتبر نفسه قاضيا حقيقيا على رأس السلطة القضائية في دولة قانون، ما دام بإمكانكم أن تطردوه ما طاب لكم ذلك، في كل وقت، كما هو حال ثلاثة ممن سبقوه.
إن نصيب المدعي العام، الحاضر هنا، والذي جعلته المفارقة يخضع لتعليمات وكيل الجمهورية، ليس أكثر تألقا، والوكيل الذي أسرﱞ رغم كونه على رأس هيئة نقابية قضائية، أن يـُــختصر في مجرد ديكور يظهر على خلفية المشهد خلال الخرجات المتلفزة لوزير العدل. الأمر نفسـُـه ينطبق على مكانة وزير العدل الذي اختصرتموه في مـُـسَـيــّـر سجون يطلق سراح الناس ويعتقلهم بأمر منكم وبشكل تعسفي في الغالب.
إن موجة الاحتقار لم تنجُ منها قرارات العدالة بحد ذاتها عندما يتعلق الأمر بتطبيقها.فكثيرا ما تقلـِـــبون، رأسًا على عقب، التسلسل الهرمي للقرارات العدلية، حسب الملفات.
والحقيقة أنه بفعل تعليماتكم تطبق قرارات قاضي التحقيق حتى عندما تكون محل إلغاء من قبل المحكمة العليا بشأن إطلاق سراح بعض معارضيكم.
ويبلغ احتقار قرارات العدالة ذروته عندما يتعلق الأمر بتنفيذ الإدارة له (أركان الجيش، وزارة المالية). وفي الإدارة عموما، فإن 85% من قرارات العدالة ضد الدولة لا تنفذ. ويحدث تارة أن الإدارات، في وجه تنفيذ قرارات العدالة،تعطي تعليمات لمصالح الاستقبال بأن لا تستلم الاستدعاءات أو إفادات العدالة) البنك المركزي الموريتاني مثال ناصع. من جهة أخرى، وبالرغم من المأساة التي تعيشها هذه المصلحة العمومية منذ 2008، فإنكم، لا شك سيادة الرئيس، لاحظتم التلاعب المنظم في قطاع العدالة في مجال تحويلات المصادر البشرية.
خذوا مثالَ الغرفة التجارية في المحكمة العليا، والمكلفة بالسهر على تطبيق القانون التجاري، ولها اليد الطولي في ذلك. فليس لأي قاض من تشكيلة هذه المحكمة (رئيسها وأعضائها) أي تخصص في القانون التجاري، بل أقول بأن كل القضاة الذين يشكلونها لم يدرسوا القانون التجاري خلال مشوارهم.
كيف تريدون لهذه الهيئة أن تعمل وتبت في قضايا التجارة وفي مجال قانون الشركات وقانون المصارف؟
لكي تتأكدوا من درجة التلاعب في قطاع العدالة، خذوا مثال الغرفة الجنائية في المحكمة العليا والمكلفة بالسهر على تطبيق القانون، ففي تشكيلتها الحالية فإن أيا قضاتِـها (الرئيس والأعضاء) ليس متخصصا في القانون الجنائي، ولم يدرس أي منهم القانون الجنائي خلال مشواره. كيف تريدون لهذه الهيئة القضائية الأعلى في الميدان أن تبت في مجال القانون القضائي؟
وإن نفس الشيء ينطبق على الغرفة الإدارية في المحكمة العليا في تشكيلتها الحالية.
مع ذلك فبعض أعضاء هذه الغرف معروفون بنزاهتهم، ولا شك أن لديهم كفاءات في ميادين أخرى كان بإمكانهم خدمة العدالة من خلالها، لكن حالَ دون ذلك سوء تحويلات الكادر البشري من قبل المجلس الأعلى للقضاء الذي ترأسونه (وهل بإمكانكم تكليف طبيب بقيادة طائرة أو تكليف ملاح بعملية جراحية؟). كيف سيادة الرئيس تريدون منا أن لا نستنتج أنه ثمة نية في منع العدالة من العمل بشكل سليم؟..
أخيرا، أي شجاعة تلك التي تدفعكم إلى مخاطبة عالم العدالة بقولكم:
نعم، أعرف بأن تحسين البني التحتية يترجم الاهتمام بقطاع العدالة، لذلك منحتُ صفر أوقية منذ 2008 في ميزانية البني التحتية بالقطاع لدرجة أن المحكمة التجارية بانواكشوط وإدارة شؤون السجون تستأجران مقراتهما لدى خصوصيين، دون أن نتحدث عن الحالة المزرية التي توجد بها أغلبية المحاكم، خاصة في الداخل.
إنكم هنا اليوم، وترأسون هذه الفعاليات العلنية لافتتاح السنة القضائية لتقولون لمهنيي العدالة:
نعم، أعرف بأن التكوين أساسي لتحسين أدائكم، ولتمكينكم من ولوج التكنولوجيا الجديدة وبغية أن تتقاسموا التجارب مع زملائكم الأجانب، ومن أجل أن تطــلعوا على الوثائق، وفي سبيل تحديث معارفكم. إنها ذات الأسباب التي جعلتني أمنح صفر أوقية للتكوين في ميزانية وزارة العدل.
ولأن هذه هي الحصيلة التي احتفلتم بها معنا اليوم، فإن التاريخ لن يغفر لنا التستر على هذه الإرادة الواضحة من قبل السلطة التنفيذية في شل المصالح العمومية بالعدالة لكي تبقى، طبعا، تحت تصرفكم وتحت رحمتكم.
سيادة الرئيس، سأقول لكم، من جانبي، لماذا أنا هنا اليوم، ولماذا أحادِثكم وأسمِـعكم صوت من لا صوت له، وصوت من يعجزون عن إبلاغ صوتهم لسبب أو لآخر.
أحد هذه الأسباب يتمثل في كوني منعت من فرصة تقديم خطاب رسمي حول وضعية القضاء أمامكم سنوات 2011، 2012، 2013، 2014. ويبدو أنكم بامتناعكم مرتين، خلال مأمورياتي الماضية كنقيب للمحامين الموريتانيين، عن تنظيم هذا الحدث التقليدي المتعلق بافتتاح السنة القضائية التي ينبغي أن تكون سنوية على غرار كل دول العالم بسبب أهمية قطاع العدالة، إضافة إلى عدم استقبال مكتب الهيئة، فإن هدفكم كان يكمن في منعي من حق بوصفي نقيب محامين، ومنعي من حقي في إلقاء خطابي الرسمي الذي يتناول علنا وضعية القضاء.
ليست هذه طبعا غير تأويلات، لكنها للأسف وجدت ما يعززها لأنكم مباشرة عندما انتهت مأمورياتي، سارعتم إلى استقبال المكتب الجديد، وجئتم لافتتاح السنة القضائية بعد غياب دام خمس سنوات.
هكذا قررتُ أن أتدارك الزمن الضائع واسترد حقي بطريقتي الاستثنائية قطعا، لكن بهدف واحد يتمثل في إبلاغكم هذا الصوت الذي كـمّـمـْــتــُــموه منذ سنوات. إنه صوت نقيب المحامين في المأموريتين السابقتين.
إن هذا الحفل مخصص مبدئيا لتشخيص واقع قطاع العدالة، وإن ملخصا لما كان من المفترض أن تتضمنه خطاباتي السابقة خلال المأموريتين يمَـكــّــنكم من أن تروْا القطاع بشكل أفضل. فقط لأقول لكم بأنكم توجدون في السلطة منذ سبع سنوات، وقد وجدتم الفرصة سانحة لتحسين العدالة في البلاد، دون أن تــُــولوا ذلك أي اهتمام. وفي المحصلة، فإنكم لا تختلفون عن كل هؤلاء العسكريين الذين، بُـعيد انقلاباتهم، وبدلا من انتهاز فرصة هذا القوس الذي فتحه لهم القدر بوصولهم إلى الحكم، سطــْــوًا، للتركيز تماما على إسعاد مواطنيهم، تتوقف طموحاتهم على مجرد السلطة. إنها تتوقف حيث كان عليها أن تبدأ.
إنني لا أتكلم اليوم باسم الهيئة الوطنية للمحامين، وإنما أتكلم كمحام ونقيب سابق، مع وعيي التام، من جهة، بحق كل محام في إبداء رأيه علنا حول سير العدالة، ومن جهة أخرى بحق الجمهور في الاطلاع على ما يمس من سير عمل السلطة القضائية.
سيادة الرئيس،
إنني أخلع وأعيد لكم بذلتي بهدف شجب حالة العدالة في موريتانيا، وبغية إدانة غياب الإرادة السياسية الساعية إلى تحسين هذا القطاع المركزي في أية ديمقراطية.
إنني أخلع وأعيد لكم بذلتي تضامنا مع كل ضحايا الظلم في هذا البلد.
إنه الخطاب الذي يجب عليكم سماعـُــه اليوم في هذه المناسبة.
نواكشوط بتاريخ 07 ابريل 2015
الأستــاذ أحمد ســالــم بــوحبينــي
نقيـــــب ســـــابق