"الشروق ميديا" - "حيّ على علوم القرآن والشريعة واللغة العربية" هكذا أذّن في الناس قبل ستة عقود أحدُ الشيوخ الصوفيين بقرية تبعد 180 كلم جنوب شرق العاصمة نواكشوط، فكانت قرية معطى مولانا مُهاجَرا لكل من اكتووا بنار الأمية في ربوع موريتانيا، ومنأى لكل كريم عن أذى الجهل والفقر وموئلا لكل من فضّل العلم حتى لو كلفه الأمر الهجرة عن الوطن الأصلي.
هَجروا الديار والمرابع في الوطن كله من أقصى شمال تيرس إلى ضفاف نهر السنغال جنوبا ومن مشرق الوطن في باسكنو إلى مغربه في العاصمة نواكشوط، إلى محضرة نائية (محظرة بالعامية) صامدة كأشجار الطلح هنا مشكلين بذلك لوحة وطن اسمه موريتانيا.
هنا يتعانق جكانا بصو وأحمدو بحسن غي، وتدرِّس فاطمتو القادمة في الأصل من نواحي بتلميت الطفلةَ حواء صو القادمة مع عائلتها من قرى نائية في بابابي، ويدرُس سيخو غي من قرى كيهيدي مبادئ علوم اللغة العربية على الدكتور العتيق، ويتعلم محمد سالم علوم القرآن على شيخُنا با الذي برع فيها، وينال أحمدو صمب الإجازة في المقرأ على يد الداه ولد محمد الاقظف.
ذوبان الفوارق
في التلال الغربية لقرية معطى مولان تقع "محضرة الشام" تلكم المحضرة المخصصة لعلوم اللغة العربية والنحو، والعلوم الشرعية الأخرى كنص خليل ابن إسحاق وغيره، وهي تستقبل كل التلاميذ بل كل الجنسيات.
بلغته الأم البولارية يتحدث سيخو غي إلى "الشروق ميديا" ويروي كيف قدم من كيهيدي إلى هذه المحضرة النموذجية مع إخوانه من الموريتانيين بكل جهاتهم ولغاتهم. بيوت متواضعة وأعرشة من الخشب يتجسد في ظلها التآخي الوطني في هذه البلدة البعيدة من ضوضاء المدينة.
ويضيف سيخو: "أحمد الله على أن وصلت إلى هذه المحضرة ورأيت إخواني من كل أبناء الوطن يتنافسون في خُلق الإيثار والمحبة والصدق مع إخوانهم القادمين، وبعد فترة قصيرة تذوب الفوارق بين أبناء المحضرة".
أما أحمد بمبا، وهو من سكان مقاطعة السبخة بنواكشوط وقد حفظ أكثر من نصف القرآن الكريم، فيتحدث الولفية والحسانية معا لاحتكاكه بالتلاميذ من مختلف جهات الوطن. وهو يقول إنه يرتاح لمحضرة الشام التي اختارت أساتذة متمكنين في اللغة العربية وعلوم الفقه، ويطمح إلى أن يحصل على الإجازة في علوم القرآن وأن يتقن اللغة العربية إتقانا في هذه المحضرة.
ومن جانبه يروي أحمدو ولد صمبا، القادم من حي انجربل في روصو، كيف مكث في محضرة الشام سبعَ سنوات وحفِظ القرآن الكريم ثم نال الإجازة في روايتي ورش وقالون عن نافع، كما نال في السنة الموالية شهادة الباكالوريا الأصلية.
ويواصل ولد صمبا بلغة عربية فصيحة اكتسبها من المحضرة قائلاً: "الأخُوَّة الوطنية موضوع مهم وترسيخه يزداد أهمية لاسيما في زمن تكثر فيه العنصرية والجهوية وما إلى ذلك، وتعتبر هذه المحضرة مدرسة في ترسيخ الأخوة بين أبناء الوطن الواحد فهي ـكما ترون- تجمع بين كل أبناء الشعب الموريتاني بجميع لغاتهم وجهاتهم. تجد أبناء الحوضين في أقصى الشرق وأبناء تيرس وتكانت وبقية الولايات، والكل موجودون هنا يجمعهم حب العلم والتعلم".
تنوع ومساواة
عندما تنحدر من "محضرة الشام" المطلّة على التلال الغربية للقرية إلى جهة الشمال الشرقي تعترضك محضرة سيد أحمد ولد بكاي، وهي من كتاتيب القرآن التي تدرس الأطفال في المصاحف بطريقة عصرية. هنا يُسمعنا الطفل خليلُ الله كانْ آيات بينات من كتاب الله من سورة العنكبوت وقد أحسن أداءها.
يتحدث الشبل بلغته الأم البولارية فيقول: "اسمي خليل الله. أدرس على الأستاذ سيدي أحمد وقد جمعت من القرآن ستة وأربعين حزبا مرتلة، وأريد أن أكون من حفظة كتاب الله العزيز".
وفي محضرة سيد أحمد البكاي قابلنا الشبل مادي ولد يحيى، وهو القادم من مدينة لعيون قبل عامين ولا يفصله عن إكمال حفظ القرآن إلا حزبان فقط، وهو يطمح إلى أن يحصل على الإجازة ثم ينتقل إلى محضرة الشام لينال علوم القرآن واللغة والفقه كما يفعل معظم الطلاب في القرية.
وفي وسط القرية تقع محضرة شيخُنا باه وهي التي تميزت بتنوع التلاميذ في الوطن ومن خارج الوطن، وتضم خمس جنسيات على الأقل هي السنغال ومالي والنيجر وسيراليون وغامبيا. يتآخى فيها المواطنون بكل لغاتهم مع الأجانب بكل ألوانهم تحت سقف واحد من الزنك ويتنافسون في حفظ القرآن بكرة وأصيلا.
وفي محضرة مريم مدينه بنت جدو تدرُس الطفلة هاوا صو وشقيتها مينا القادمتان في الأصل من بابابي على ضفة النهر. وصلت الطفلة في مصحفها إلى منتصف سورة النور، ورغم أن لسانها أعجمي ولا تتحدث الحسانية بطلاقة ولا العربية، فهي تتقن القرآن بمخارجه وقد رتلت لنا آيات من سورة النور.
ترسيخ للوحدة الوطنية
في المدخل الشمالي للقرية يوجد مركز للأم والطفل وهو مركز يقوم عليه محمد المشري ولد الحاج يشمل إذاعة محلية تبث على موجة "أف أم" داخل القرية بعض البرامج الدينية والعلمية، وتحثُ في افتتاحيتها الصباحية على قيم الأخوة بين أبناء القرية، وكأن للقرية جنسية يكتسبها كل من شيد منزلا داخلها، يتحدث عنها ذلك النشيد المحلي في كلماته التي تبث في الإذاعة كل صباح.
يشهَد المركز دروسا في التفسير والسيرة النبوية ينظمها الأستاذ محمد المشري وتستهدف بالأساس النساء والفتيات. ويوثق المركز كل حفظة القرآن من أبناء القرية الذين يزيد عددهم على 120 كل عام، وهم قادمون في الأصل من جميع جهات الوطن لكن أبناء القرية "سواسية كأسنان المشط لا فضل فيهم لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي"، كما يؤكد ذلك شيخ القرية الحاج المشري وكما يُلاحظ في كل المحاضر.
نموذج وطني
وتلفت انتباه الزائر في القرية الوادعة إبداعاتها الخاصة، كاختراع سكانها زيا مميزا موحدا يجمع بين البياض والسواد، حيث يضعه المشايخ عمامة، ابتداء بالشيخ الكبير الحاج ولد المشري الذي يظهر في معظم المناسبات رافعا العمامة نصف البيضاء ونصف السوداء دعوةً منه للأخوة الوطنية، فيما يرتدي النساء ملاحف مطرزة محلياً بنفس الألوان.
ولا يخفي تواضع أبناء القرية الجم سعيهم عبر المحضرة ومراكزها وأزيائها الرمزية وأخوة أبنائها إلى تقديم نموذج للبلد الذي يحتاج إلى مقاربة تجعل العلم والدين مرجعية يستظل تحتها كل أبناء الوطن الموريتاني، سعيا لإذابة الفوارق بين أبناء هذا الشعب وتعزيز لحمته الاجتماعية والوطنية.
المختار بابتاح ـ معطى مولانا