أغادر الحي مع نسائم الفجر وأشعة الشروق الوردية التي بدأت تتبدد في الحي وسط غبار لقطعان المواشي ويتراءى قرص الشمس الآن من شرق الأفق وهو يدخل من فجوات غابات القتاد ، أغادره بعد ليلة من ليالي البدو الممتعة، أغادره مودعا وربما لن أعود إليه، ولكن ما سيظل عالقا في ذاكرتي طول الرحلة هو مصير تلك الفتاة "المسَـمـّنـة" التي تركتها مربوطة بالركيزة الجنوبية من خيمة مضيفتي، بعد أن قامت بقياس عضدها الأيمن فرأته قد تناقص قليلا بقدر أصبع فانهالت عليها بالضرب وهي تصرخ فكرت في النزول من البعير لكني لا أريد أن أقوم بأمر لافت، لقد شددت رحلي وليس أمامي إلا المغادرة..
المهم غادرت الحي على بعيري أتسلق به الربا وأنزل الوديان، أنظر إلى الأمام ثم أرد البصر كرتين ذات اليمين وذات الشمال عساي أن أصادف ولو بعيرا في هذه الأرض التي لم يظهر فيها أثر الإبل منذ أيام وكان تفكيري:
يا إلهي!! ماذا تخبئ لي الأيام القادمة؟ وهل سأتيه في هذه الصحاري إلى الأبد؟ وهل سأعثر ولو بعد شهور على إبل أصهاري؟ وما هو مصير أهلي؟ وكيف يفكرون في مصيري؟ هل لهذه الأرض الممتدة نهاية؟ محرجون أنتم أيها الأصهار في مجتمعنا!! تكلفون الإنسان بمهمات ـ أو يفرض عليه ـ أن يكلف بها نفسه وهي مهمات في منتهى المستحيلات، قطعا لن تتحدث الركبان عن ذلك اليوم الذي أعود فيه صفر اليدين إلى أصهاري، أنا لن أعود إلى الديار إلا وراء إبل أصهاري هذا ما وعدتهم به هكذا الرجال ينفذون المهام أو يموتون، ما أعرفه أن احتمال الضياع إلى النهاية أو الموت في هذه الرمال التي أراها الآن مد البصر هو الراجح..
بينا أنا في بحر من اليأس حتى إذ مررت بغابة من الطلح صادفت أرنبا تقف مستوية على رجليها الخلفيتين رميتها بعصاي، وجرحت جروحا خفيفة فنزلت بسرعة عن البعير وربطت زمامه بجذع شجرة من الأيك، ثم قمت بملاحقتها وكنت أهرول وأركض حتى تمكنت منها، بسرعة قمت بذبحها وعدت مسرعا إلى بعيري وحملتها معي..لقد أعادت إلي هذه الأرنب الأمل!!
هيا إلى السير والرقص مع البعير هيا إلى الحداء مع سير البعير الذي بدا يتناقص ويتصبب عرقي فوق عرقه مع شدة القيظ هو حال يذكرني بقول القائل
جملِي مشيه إبان كلْ .... فتْرانْ أصافِ روحو
وانَ فتْرانْ ؤمونْكَلْ .... مانكْدرْ كون انروحو
عفوا !! حان وقت المقيل سأقيد بعيري وأستظل تحت هذه الأيكة وأجمع الحطب وأوقد النار أطهي بها أرنبي..
إذا زالت الشمس عن كبد السماء وتناقصت حرارة النهار سأواصل معكم رحلة البحث عن إبل الأصهار فأين ستقودني هذه الرحلة في المحطة القادمة؟