سكتت مدافع "عاصفة الحزم"، وكانت نتائجها السياسية أهم بكثير من نتائجها على الأرض، بدليل أن الحوثيين وأنصار صالح ما زالوا قادرين على التحرك والضرب، رغم الخسائر الجمة التي لحقتهم.
حققت عاصفة الحزم إجماعا غير مسبوق، حول النظام السعودي، داخليا وخارجيا، لكنها وضعت دول الخليج مجتمعة أمام خيارات صعبة، أخطرها: ما بعد العاصفة؟
نتائج العاصفة تدلّ على أنه لا مناص من حلّ سياسي في اليمن، ولا مناص أيضا من حوار شيعي ـ سني، وخليجي ـ إيراني، ينزع فتيل الاحتراب الطائفي وينقذ المنطقة من هلاك محقق، في ظل استقطاب دولي متزايد وغطرسة إسرائيلية مستفيدة من صراع المسلمين بينهم ومن تصدّع اللحمة المسيحية ـ الإسلامية في العراق.
للسعودية الحق الكامل في الدفاع عن نفسها، لكن تدخل التحالف في اليمن، سيجعل الطرف الآخر يقول إنه أعطى شرعية لتدخل حزب الله في سوريا وربما لإيران في العراق! وإلا ما الفرق بين كل تلك الحالات؟
منطق الدولة هو المصالح، ولا شيء غير المصالح، وهو وحده الذي يحرك جميع دول المنطقة، على اختلاف توجهاتها ومشاربها، لكن الطائفية حقل للممارسات السياسية الإقليمية، قبل أن تكون طرفا مباشرا في الصراع، ولذلك ليس من الحكمة في شيء تضخيم الخطر الإيراني أو استدعاء الصور النمطية التاريخية لشيطنة الخصم، لتعويض النقص الفادح في التدبير، والنقص المبين في العمل، وحتى الخوف من التعبير الصريح عن المصالح وعن المواقف وحتى عن الخصوصية!
كان لافتا الاصطفاف الطائفي، السني ـ العربي، خلف "عاصفة الحزم"، والسبب القطعي هو الخوف العربي من إيران، ومن حضورها القوي في المنطقة، سياسيا وإيديولوجيا، وهو خوف مشروع، لكنه ليس كافيا لتبرير التقاعس العربي والسني عن بناء التوازن الاستراتيجي مع الجار الإيراني ومن الحوار معه في الآن نفسه، لأنه باق حيث هو، لأن الجغرافيا لا تتحرك وبالنتيجة يجب تحمّل إزعاجات الجيران!
إيران موجودة في بوابة الشرق، وخلفها الصين وروسيا، وقد يكون الصدام الخليجي ـ الإيراني، المفتوح، إن حصل، مقدمة لصدام إقليمي أوسع قد يتحول إلى سلسلة من الحروب العالمية الجزئية، قد تكون مقدمة لحرب عالمية ثالثة، تسعى إليها إسرائيل و"النخبة السرية" العالمية بكل الوسائل لتطبيق أجنداتها المخيفة والتآمرية.
السياسة تُبني على المصالح والقوة أيضا، وهي حقل لا يقبل الفراغ، وليس مبنيا على "حسن النيّات" والمواقف الطيبة واللينة، بل هي مجال للتنافس والصراع والهيمنة، ومن يسقط سيخسر، ولن تنفعه أية مسوغات أو عنتريات، بل لا بد من فعل منطقي وعملي.
لقد تخلّى العرب السنّة في الخليج عن العراق، ولم يتدخلوا لمنع إيران من مدّ نفوذها أو تقليصه أو حتى التعاطي مع الحضور الإيراني في المشهد العراقي بعقلانية ومنطق، بل استمر حالهم في شكل بكائيات بائسة، وخطابات جوفاء، بينما كانت السياسة الإيرانية سريعة وفعالة وصبورة، وواضحة أيضا، في التعبير عن مصالح إيران وحتى عن "حقوقها" التاريخية ومصالحها الإستراتيجية صوابا أو خطأ، وكان الحصاد المر من نصيب العرب السنة في العراق وخارجه.
إن تحميل إيران مسؤولية الأحداث ليس من قبيل المبالغة، لكنه ليس كافيا لتبرير الفشل العربي الخليجي في العراق ثم في اليمن، والإنزعاج من الدور الإيراني أو من انتصارات حزب الله في مواجهة إسرائيل، ليس كافيا لتبرير الفشل في تقديم البدائل الأفضل.
إيران ظلت حاضرة في الخليج وبقوة ومنذ عهد الشاه، وكادت تتحول أيامها إلى "شرطي الخليج"، لكنها بعد الثورة صارت أكثر إزعاجا، والسبب المعلن، هو الخوف من تصدير الثورة، والسبب الخفي هو الطابع الشيعي لذلك التصدير!
العرب يخشون من تنامي النفوذ الإيراني، ولهم الحق في التعبير عن تلك المواقف، لكن عليهم أن يقدموا أفضل ما عندهم لمنافسة إيران بشرف أو محاورتها بأخوة.
ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن العرب هم من تسبّب في الوضع الكارثي في المنطقة؛ وإلاّ فمن أدخل الخليج في دوامة التدخل الأمريكي؟ أليس العراق بعد غزوه للكويت؟ ألم يكن ذلك حدثا عربيا خالصا ومخزيا؟ حتى ولو كان الأمريكان قدّموا العراق على طبق من ذهب لإيران؟ فأين العرب حينها؟ وهو تقاعس رسمي خليجي فتح باب جهنم على العرب السنّة في العراق وجعلهم بين فكي الاحتراب الطائفي مع مواطنيهم من الشيعة وبين الاستنجاد بالأطراف المسلحة الجديدة ولها أجنداتها الخاصة التي لا تتفق ومنطق العراق التقليدي كما يعرفه الجميع.
لقد آن لنا أن نتحدث بصراحة، عن الوضع في الشرق، وأن نسمي الأشياء بأسمائها، كي نتمكن من رؤية ما في الواقع من انعطاف ومرونة.
وهنا نقول إن وجود حزب الله ليس وضعا كارثيا، أخطا أو أصاب، بل هو وضع طبيعي لتطور الحقائق السياسية والاجتماعية في لبنان وفي المنطقة، وتنامي قوة إيران مشروع وحق طبيعي لشعب عريق ودولة تمتلك مشروعا قوميا، لكن بالمقابل لدول الخليج وفي مقدمتها السعودية أن تبني قوتها أيضا وأن تبحث عن مناطق النفوذ الرمزي والواقعي، لكن جميع الأطراف يجب أن تحرص على الحوار الدائم ورفض العدمية السياسية ونفي الآخر، وتحجيم بؤر التوتر، والإبقاء على حدود مقبولة للتفاهم أبعد ما تكون عن الخيارات القلقة والرهانات الدولية المغرضة.
خرائط الدم التي يتم إخراجها غربيا، في كل مرة، هي لتذكير الجميع بأن مستقبلهم غامض ومخيف، ويجب أن تدفع العقلاء إلى مراجعة الحسابات والمواقف. ويبقى الحوار مع الجيران، الأشقاء، أولى من العداء معهم، وصراع المصالح أجدى من حروب التدخل الأجنبي.
على العرب أن يستعيدوا زمام المبادرة، وهذا حقهم، بعاصفة الحزم أو بغيرها، لكن ذلك لن يكون كافيا، إلا إذا تحول إلى رصيد استراتيجي يمكّنهم من حل مشكلاتهم مع جيرانهم ومن دون تدخل أجنبي وأن يقبلوا منطق التنازل والتعامل بروح أخوية وسياسية معا، ومن دون خوف ولا عقد، وإلا فإن "حرب الطوائف بالوكالة" ستتحول إلى حروب شبه عالمية، الخاسر فيها هو جميع سكان المنطقة باستثناء إسرائيل.