في إطلاليتين إعلاميين متتاليين كان الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز مختلفا عن كل إطلالاته الإعلامية السابقة في الشكل والمضمون، فقد اختار من جديد عالم الفيس بوك البعيد من أسئلة الصحافة التي تكون مفاجأة في الغالب ومن يدري أن وراءها مدسوسين لصالح خصومه السياسيين.
لقد كان الرجل ذكيا في اختياره عالم الفيس بوك المفتوح على العالم كله، واكتسب خلال هذين البثين المباشرين مئات الآلاف من المعلقين والمشاركين.
هذا عن الشكل أما المضمون فبدا خطاب الرجل لأول مرة في تصاعد ضد النظام، وزاد تصعيده في البث الأخير حين وضع النقاط على الحروف، واتهم صراحة وزير الداخلية وشقيقه بالفساد والتعامل مع جهات تعمل لأجندا خارجية، كما شبه غزواني بالرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله حين قال "ارتكبنا خطأ في العام 2019 وهو نفس الخطأ الذي ارتكبنا عام 2007" (دون أن يذكر كفارة الخطأ الأخير..).
تأتي اللغة التصعيدية التصاعدية للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز قبل أسبوعين تقريبا من موعد المحاكمة المحدد في 25 من الشهر الجاري، مما يطرح عدة أسئلة قد لا نجد لها أجوبة حاليا من قبيل : ماذا يريد ولد عبد العزيز باستفزاز وزير الداخلية محمد أحمد ولد محمد الأمين وشقيقه محمد محمود ولد محمد الامين السفير السابق في الرياض؟ هل يريد أن يرفع الاثنان عليه قضية جديدة حتى يلفت النظر الأنظام عن موضوع المحاكمة؟ وما هو السبب في صمته عن رأس النظام وعدم اتهامه في أي ملف من الملفات؟، وفي حديثه عن الإخوان المسلمين واستهداف المدنيين في الشمال الموريتاني، هل يريد عودة معركة المحاور (قطر والإمارات، المغرب والبوليزاريو) وهي معركة لعب عليها مدة عقد من الزمن؟
التصعيد .. الطريق إلى التألق السياسي..
عندما كان زعيم حركة "إيرا" السيد بيرام ولد الداه ولد اعبيدي يبحث عن ولوج الساحة السياسية في العام 2010 كان خطابه راديكاليا على كافة الأصعدة، وكان الهدف الأول هو السجن حتى يتم استهدافه كحقوقي يدافع عن شريحة "لحراطين" فشلت كل المحاولات قبل ان يدخل في مواجهة مباشرة مع مفوض عرفات 1 ، ثم قدم بعد ذلك على محرقة الكتب، التي كانت بداية استهدافه ودخوله المعترك الحقوقي والسياسي لاحقا.
يبدو أن الرئيس السابق يستخلص من دروس بيرام وقبله الحركات السياسية المناوئة للأنظمة، فيحاول عزيز أن يدخل المعترك السياسي بالتصعيد، والبحث عن السجن كسياسي سجين رأي بأي ثمن، فالرجل يصنع نزلة سياسية نوعية في إطلالاته الأخيرة ؛ حيث يقسم خطاباته الأخيرة بين استفزاز من رآهم الحكام الفعليين للبلد (وزير الداخلية وحاشيته) متعمدا تجاهل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وجعله غائبا عن المشهد السياسي، وبين أوضاع الشعب المعيشية وما يعانيه المواطن من ارتفاع نوعي للأسعار، وحديثه لأول مرة عن الطبقة الكادحة الضعيفة التي عانت في ظل هذا النظام الحالي.
خطاب سياسي معارض جديد يتضاعف ويتصاعد كلما اقترب موعد المحكمة، والهدف ـ كما يبدو في خلفيته ـ أن يكون الرجل مجرد سجين رأي سياسي يمنع من حقوقه المدنية، وكان واضحا من إطلالته الأولى حديثه عن استهدافه الأخير بسبب زيارة "داخلة انواذيبو" قبل شهر من الآن.
ملء فراغ المعارض الراديكالي..
مما يزيد ولد عبد العزيز في استفزازه للسلطات الحاكمة هو شغور خطاب راديكالي ضد النظام الحاكم، فمنذ وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى اليوم كنا نعدم في خطاب المعارضة "المطالبة بالرحيل" كما كان واقعا قبل سنوات في عهد نظامه وخاصة مأموريته الأولى.
وبالعودة إلى واقع المعارضة الموريتانية، فإنها تعيش فراغا حقيقيا بين من يثني على إنجازات النظام في الغالب، (حزب تواصل) وبين من لا يملك خطابا سياسيا واضح المعالم وأكبر مطلب له هو تأجيل الانتخابات (التكتل ـ اتحاد قوى التقدم ـ إيناد) إلى خطابات زعيم حركة "إيرا" بيرام ولد الداه ولد اعبيدي التي اتسمت بالتأرجح بين الثناء على غزواني ومهاجمة وزر الداخلية الحالية، (في تناغم مع خطاب يثير الشكوك عن الحديثة العلاقة بين الرجلين).
في غياب خطاب راديكالي يلوح بضرورة التخلص من النظام، كان الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز يحمِل نفسه ومن صوتوا لهذا للرئيس غزواني "أكبر خطأ ارتكبه في حياته، وهي محاولة وصول ولد الغزواني للسلطة لكنه للأسف لم يصل للسلطة" (الكلام لولد عبد العزيز).
سقوط نظرية المؤامرة..
أخيرا أسقط ولد عبد العزيز نظرية المؤامرة التي كانت سائدة في الشارع الموريتاني، وهي أن الرجلين غزواني وعزيز ما يقومان به مجرد مسرحية سيئة الإخراج، فأظهرت الأحداث أنهما بالفعل متضرران من بعض، وأن القطيعة النهائية بدت معالمها اليوم عندما أصبح عزيز يسمي صديق عمره بالاسم ويتهمه علنا بالعجز، بل يقول صراحة إنه خارج السلطة، كما أن تعنت عزيز في كل الوساطات الدولية التي تتحدث التسريبات عنها تثبت أنه لم يعد هنالك أمل في الأفق في التوافق بين الرجلين.
السيناريو المتوقع أن يقدم عزيز للمحاكمة بتهمه الحالية المتعلقة بالفساد، وسيستغلها الأخير أكبر استغلال لصالحه سياسيا، بل قد يتعنت ويرفض التجاوب مع المحكمة ويصفها بقضية سياسية شخصية، ويبدو أن ذلك ما يبحث عنه من خلال خطاباته المتصاعدة.
أما الأهم بالنسبة لولد عبد العزيز فهو أن يظهر كنجم من نجوم السياسة الراديكالية، في ساحة سياسية راكدة تتعطش جماهيرها لخطاب يقوم بمسح الطاولة نهائيا.. فمن سينجح في تحقيق أجنداته؟
المختار بابتاح