أكتب إليك أيتها المدينة الصابرة الصامدة، المغتسلة دما، المشتعلة نارا المسورة رجالا وبنادق..
أعرف أنه لا وقت لديك سوى لقراءة الرسائل الملتهبة المكتوبة بالبارود واللهب، المنقوعة ورقا وريشة في الدم، وما الذي تفعلينه بحروف عاجزة من مواطن عربي خلفه عنك بعد الشقة وقلة ذات اليد ..؟ّ!!
ما فائدة الحبر والدموع في معركة تخوضينها نيابة عنا ..؟!! أنت لا تريدين منا شيئا أي شيء، وقد أسقطت معركتك المهيبة قبعات ضباطنا ،و أقنعة ساستنا، وورقة التوت عن عورات شعاراتنا وسخافاتنا وأحلامنا..!!
أنت رائعة برجالك، وقوية بنسائك، ومتألقة بأطفالك، أنت عروس من نوع خاص، مهرك الحديد والنار، فستانك خيوط من دماء الشهداء، عطرك عبق من الجنة، أنت أكبر منا،أكبر من قوميينا، ويساريينا، وإخواننا، وأنبل منا، وأطهر منا ،وأصدق منا..!!
وحدك وقفت عندما انبطحنا، وعانقت الموت عندما أقبلنا على الحياة، وأقبلت عندما أدبرنا ،واخترت الرجولة عندما اخترنا "الخنوثة"، منك تعلمنا الفرق بين رجال الخنادق ورجال الفنادق، بين المجاهدين على الثغور، والنائمين في مخادع البخور، منك تعلمنا الفرق بين رجال الحديد ،ورجال "مناشف المراحيض".
أنت التي غسلتنا من الوهم، وأنقذتنا من الشك ،منك تعلمنا أنه لا قريش في الحي، ولا فرسان في المضارب، ولا رجال في مدن الملح، تحت نيرانك رأينا الحقيقة، نياشين ضباطنا ألوانها سراب وسلاحهم لعب أطفال.
ملوكنا وأمراؤنا ورؤساءنا دمى من ورق ،وإن استعاضت حياة البقر والدجاج، نفطنا ليس لنا ،أرضنا ملك للآخرين، ثرواتنا للغرباء، أرضنا، بحرنا، سماؤنا، كلها ليست لنا، أسلحتنا قطع غبار، بلا قطع غيار، رجالنا بلا رجولة ورجولتنا بلا رجال، نحن غثاء كغثاء السيل، نحن نخجل منك فالطفل فيك يموت شهيدا ،وسموه وفخامته فينا يموتان تخمة وانتصابا.
المرأة المسنة فيك تموت رافعة الرأس، و"خليفتنا" يضاجع سباياه وغلمانه، ويرقع من القرون الوسطى عباءة تقتل هؤلاء ذبحا، وتهجر أولئك قسرا ،رجالك يحملون أرواحهم إلى الجنة بصبر لا يلين، ونحن نتصارع "الداعشي" يذبح" النصراوي"، و"القاعدي" يذبح "الجهادي"، و"الحزام الناسف" يأكل "المفخخة" ،و"السكين" تذبح "المقصلة"، و"السيد" هرب من حرب اليهود ليذبح "النواصب" و"قتلة الحسين"، و"السلفي" يبرى سكينه ليذبح "الصفوي" و"الرافضي" و"لاعن الصحابة"، أنت تصنعين الكرامة، ونحن مختلفون هل المبادرة يجب أن تكون مصرية أم قطرية، تدفعيننا إلى الأمام ،ونحن ننسفل نحو الحفر الواطئة سياسيا وفكريا.
لدينا "خليفة" ساعته سويسرية، والجهاد في قاموسه ذبح أهل المذهب المخالف، وقهر المسيحيين الآمنين، وجهاده نكاح ومتعة وسلب ونهب، أجمل ما فيك يا غزة أنك تنظرين إلينا، تعرفيننا ، وتقدرين حجم الهوان الذي نعيشه ،مصر تبيعك نهارا جهارا ولا أثر لعمرو ولا لخيل الفاتحين، السعودية تسلمك ولا أحد يصرخ في خيل الله أن تركب.
العرب والعجم كلهم يبيعونك ويسلمونك، فإذا فار الدم وتسربلت بالنار، اجتمع وزراء الورق ليصدروا بيانا، أو تثاءب أمير ميت أنوثة وتخمة وثمالة وأرذل عمر، ورمى بملايين دولارات هو وحده من يقدرها ويموت ويحي في سبيلها، أما أنت فتريدين الخيول والسيوف والرجال واللهب، ولا تستوقفك ملايين السحت التي يأخذها الأمراء والملوك والرؤساء ثمنا لأرض أو عرض أو كرامة أو جسد..!!
انظري إليهم، واضحكي رغم الأسى من جبنهم وعجزهم، من تنافرهم وتدابرهم، من قلة حيلتهم وهوانهم ، مصر لا ترضى بمبادرة ليست من عندها ،وقطر تريد لنفسها الريادة.
ومصر وقطر ومعهما الأعراب والمخلفون والمنافقون، يمنحون بهذا الخلاف الوقت الكافي للعصابات الصهيونية كي تمارس هوايتها في القتل والتخريب والتوحش، أنت أكبر منا فأنت مصنع المعجزات.
منك خرج الشيخ أحمد ياسين، على كرسيه ليموت كما الرجال، فيك رسمت دماء صيام والرنتيسي وعياش والجعبري لوحة الكفاح ودرب الانتصار، مشكلتك أنك لا تقبلين سوى الرجال ، وخارج حدودك ـ على امتداد الوطن العربي ـ جيش من المخنثين وأشباه الرجال، ذات مرة كنت تحسين أنفاس رجال خالدين، وقفوا معك بالمال والأنفس والسلاح لكنهم رحلوا، رحل أبو خالد ،وأبو عدي، وأبو عمار، كما رحل أبو جهاد وأبو اللطف وأبو الهول.
من يومها عقمت الأرض العربية،، لكنك وحدك أنجبت رجال القسام ،والسرايا، والأقصى، وأبو علي والقدس.
منك كان الرجال يتدفقون نحو الجنة، دون خوف أو وجل، وفى كل مرة كنت في انتظار اليهود ، تتمنطقين برجال لا يعرفون الهزيمة، تتكحلين باللهب، وتتعطرين بالدم، وفى كل مرة كان اليهود يكتشفون أنهم مثلنا تماما أصغر منك، وأضعف من أن ينالوا من عيون أطفالك، وقسمات شيوخك، وهامات رجالك كالشجرة، أنت يقطعونك فتورقين، وكطائر الفينيق تنتصبين أمامهم وسط الركام ، حاصروك ودمروك وضيقوا عليك، فحلقت فوق رؤوسهم الدميمة، طائراتك التي لم يستطع أي نظام عربي حتى التفكير في كتابة اسمها، مددت ذراع القسام فاستطال واستطال وتمدد، فأرغم اليهود ـ على طول الأرض المحتلة وعرضها ـ على الاختباء كالجرذان الكسيحة، في ليلة مظلمة مطيرة عاصفة، فى الملاجئ والمراحيض.
تعرفين أنهم لن يقاتلوك إلا من وراء جدر، بعضها عازل، وبعضها حديدي، لكنها لا تحميهم أبدا من صولة غضبك المضمخ بدماء جيل من شهداء القضية.
رائعة أنت، لا تنظرين أحدا، ولا تنتظرين أحدا، لا تريدين خبزا، تترفعين عن استجداء أشباه الرجال ، تعيشين ب"الأسودين" النار والحديد متعففة قانعة صبورة برجالك الذين بهم يجب أن تنتشي وتزدهي وتتزينى، فهم والله الرجال في زمن بلا رجال.
اعذرينا يا غزة و تقبلي انكسارنا وانطواءنا فأنت أنبل ظاهرة كفاح في حياتنا
رجالك البررة يغتسلون كل يوم بالدم، ويتسربلون بالحديد، وينامون في اللهب لكي تظلي غصة في حلق اليهود ،وسيفا في خاصرتهم ،وشهادة موقعة بالدم على أنه لا رجال إلا رجالك، ولا مدينة إلا أنت.
أنت لا تحترقين إلا لتنهضي، ولا تموتين إلا لترسمي للحياة شكلا جديدا، ولحنا جديدا، ومعنى جديدا.
أنت ترين في الأفق عمر الخالد يدخل القدس، فاتحا منتصرا، طافحا بالإيمان والنصر وفى يده مفتاح الأقصى و"عهدته" الخالدة.
أنت ترين في عين اللهب أملا قادما بالنصر، تنبتين بالدماء حقول زيتون وليمون قادمة، وتكورين من حجارة المنازل، وعيون الأطفال، وجباه الرجال الساجدين، وأنات المرضى، وعبق الشهداء، وزغاريد أمهاتهم ،فجرا صادقا، واثق الشمس، صحوه عصي على كل الغيوم والأعاصير.
لك الحب والوفاء والبقاء والمجد
ولنا التعري والانبطاح، والهزيمة والخزي، ولطم الخدود، والتولي يوم الزحف.