تحت ظل الأيكة أرى عقبان اللهيب تتطاير على كمّي من زمهرير الحطب فتشوي لحم الأرنب، في هذا القيظ الشديد ووسط سخونة السباخ التي بدت تنعكس على ظلال الشجر، وفي وقت يتراءى السراب في الأفق كما يتراءى الموج المتلاطم، في هذا الوقت الحارق ـ الذي لا يسمع فيه غير أصوات الصراصير البرية تزغرد ـ أرى بعيدا وسط ذلك السراب شبح إنسان قد أثقله الحر، يمشي ببطء شديد، يبدو أنه يسير على خطى بعيري المقيد على بعد مسافة قليلة، ويبحث عن صاحب هذا البعير عله يغيثه من حرارة الشمس والعطش الشديد، أبتعد قليلا عن ظل هذه الشجرة تاركا النار تطلي ما تبقى من لحم الأرنب، وبجانبه بريق معدني تغلي فيه وريقات من الشاي، أشير بقطعة قماش إلى هذا الرجل البعيد ويراني ثم يجيبني هو الآخر بعمامته السوداء ويتجه نحوي.
لا بد أنه باحث عن ضالة إبل، أو راع تائه في هذه الصحراء التي حدثنا الأوائل أنها صحراء يضل فيها الخرّيت، أو مستغيث يطلب النجدة.
وبينما أفكر في مصير هذا المسكين إذ وصل إلي ، تبدو على الرجل علامة الإعياء والتعب، والجهد، لا يستطيع أن يتكلم عن حاله يشير بسبابته إلى الماء في القربة، ويشير بالأخرى إلى البريق المعدني، فورا ناولته كأسا من الماء البارد وحاولت إيصاله عن طريق الأنف وبعد لحظات شرب وشرب حتى عاد إلى الحياة تدريجيا.
وجلسنا على بعد أذرع من اللهيب نطارد الظل يأبى إلا أن يقيم الشاي كان يشفق علي وأنا الذي اسود جسمي واصفرت عيناي وطال شعر رأسي ولحيتي بعد أن واصلت الأيام والليالي بحثا عن ضالة أصهاري، كان ينظر إلي بكثير من الإشفاق، ويحاول التخفيف من معاناتي، ويسليني ببعض القصص عن الأصهار والحب البدوي والمغامرات التي يقوم بها أهل البادية، أتذكر هنا قصة وقعت له أيام كان في زهرة شبابه وهو يغامر من أجل محبوبته يحدثني هذا الشيخ بكثير من الحنين إلى شبابه قائلا:
كنت أزور كل ليلة محبوبتي في حي يبعد ثلاث ساعات من حيي الذي أرعى فيه الإبل، فأقوم بحلب جميع نوق الحي وأنتهي بعد منتصف الليل تقريبا ثم أنطلق نحو رحلة موحشة إلى مكان محبوبتي أتخطى الشجر والحفر حتى أصل خيمة المحبوبة في الجانب الطرفي من الحي، وكنا حينها نتفق على أنها ستنام في غرب الغطاء الجلدي للعائلة الذي يمتد على طول الخيمة، والخطة محكمة جدا، حيث أقوم بالاقتحام ثم أتسلل وأتسلل إلى غربي الخيمة فأضع أصابعي على أنفها وأحبس أنفاسها، ثم تستيقظ وتفهم أن محبوبها قدم، فأخرج من الخيمة وتقوم بتتبعي، ثم نقيم سهرة بعيدا عن أعين الرقيب وهكذا قضيت شهورا بهذه الحال، وأطرف ما واجهني أن الحي رحل عن بلدته في أحد الأيام، وجئت على الموعد فوجدت أطلال الحي، وقررت حينها أن أوقد ولاعتي أتتبع بها آثار الجمال التي رحّلتهم، وبينما أنا أواصل تتبعها على ضوء الولاعة الخافت حتى طلع الفجر وتأخرت عن إبلي وعدت مرهقا وتظاهرت بأني كنت أبحث عن بعير للحي..
كانت قصصه بمثابة وقود ومنشط جديد يزرع داخلي ثقة جديدة بنفسي خاصة أني أبحث عن ضالة أهل زوجتي وليست محبوبتي، ودعني وأنا لا أحب مفارقته ثم غادرت أنا المكان مواصلا الرحلة الشاقة والممتعة، فمتى سأحد ضالتي؟